لماذا صوّتت النّهضة ضدّ الفصل 167؟
لسائل أن يسأل لماذا صوّتت النهضة ضدّ هذا الفصل وهي التي شنّفت أذاننا بمعيّة حلفائها بالصّياح والعويل أنّها ضدّ التّجمّع وأنها مع “تحصين الثورة” الذي تقدّمت بصدده بمشروع قانون وزمجر نوّابها في وسائل الإعلام بكونهم المؤتمنون على الثورة؟ وها هي اليوم بقدرة قادر تتخلّى عن ذلك بداعي “المصلحة العليا للوطن” و”النّأي بالبلاد عن الفتنة” و”التصدي لنوايا تأجيل الانتخابات أو عدم إجرائها أصلا” وهي حجج مردودة على أصحابها بل هي حجج من لا حجّة له، فنحن نعرف أنّ قرار النهضة، بل قرار قيادتها ورئيسها تحديدا ليس قرارا سياديّا بل هو قرار مملى من جهات خارجية تتولّى اليوم تسطير مستقبل البلاد في أفق عودة التجمّع المقبور بتسميات جديدة لتقاسم السّلطة أو التداول عليها مع اليمين الديني ممثلا في “حركة النهضة”، بما يسدّ الباب أمام القوى الوطنية والثوريّة، وهذا لن يتحقّق بالفصل 167. والقاصي والداني أصبح اليوم على علم بأنّ مواقف حركة النهضة في القضايا الأساسيّة والمفصلية تأتيها “من وراء البحار” خاصة بعد إسقاط نظام مرسي وتراجع خطط الإخوان في سوريا وإصدار الموقف السعودي منهم كحركة إرهابيّة. والنهضة تستغلّ أغلبيّتها في التأسيسي وامتداداتها في مختلف مفاصل القرار التي تواجدت فيها أيّام حكمها المباشر لتقديم فروض الولاء والطّاعة للخارج كي تضمن دورا أو تواجدا في الخارطة المستقبلية التي هي بصدد التشكّل. ولا يخفى دور الخارج الاقليمي والغربي في هندستها وصياغتها، وهذا الانخراط الطيّع هو بصدد خلق مشاكل داخليّة للنّهضة خاصّة مع قواعدها التي صدّقت يوما ما أنها تنتمي إلى “حركة” مع الشعب. فضلا عن ذلك فإنّ الحسابات السياسويّة والانتخابويّة الضّيّقة للنّهضة جعلتها منذ مدّة تلعب الورقة الدّستوريّة، فمن أجل التّصدّي للنّداء أخرجت من القمقم حامد القروي لتكلّفه بمهمة تنظيم صراع دستوري/دستوري لإضعاف حزب النّداء، والاستفادة من الماكينة القديمة بتقريب شقّها الاسوأ الذي لا يُخفي “فخره بالتجمّع” من أجل الاشتراك في الحكم أو في أسوأ الحالات الاستفادة منه كاحتياطي لتعزيز النهضة أو لضرب خصومها. من أجل ذلك لم تتأخّر حكومتي النهضة في إسناد التّأشيرات لرموز الاستبداد والفساد، كما لم تتأخّر في إخراجهم من السّجون وآخرها الأحكام المهزليّة في قضايا الشهداء والجرحى، وهي التي تتحمّل كامل المسؤوليّة في تعطيل العدالة الانتقاليّة التي كوّنت لأجلها وزارة رغم معارضة القوى الثوريّة والمدنيّة. إنّ تعاطي “حركة النهضة” مع ملفّ تركة الدّكتاتوريّة لم يكن في يوم مبدئيّا ومراعيا لأبسط مطالب الشّعب، بل هو تعامل مصلحي انتهازي لا غير، إذ انخرطت في البعبع التّهريجي ضدّهم، لكنها في الواقع نسّقت معهم واستعانت بالعديد منهم في دواوين وزرائها وفي عديد المناصب السّامية ورصّت بهم هياكلها القاعديّة والوسطى، وكلّفت بعضهم بمهام قذرة، والأنكى هو مواصلة نفس خيارات التجمّع الاقتصاديّة والاجتماعيّة وعلاقاته الخارجيّة القائمة على التبعيّة، وأيضا الحفاظ على أسلوبه في الحكم القائم على القمع والدّيماغوجيا واحتقار الشعب.
بفضل النّهضة التّجمّع سيكون خصم الشّعب في الانتخابات المقبلة
احتكاما لقاعدة الانضباط القطيعي التي تُميّز الأحزاب المحافظة والرّجعية، صوّت نوّاب النّهضة مرّة أخرى ضدّ إرادة الشعب ومصلحته، وبمقتضى هذا التّصويت سيُتاح للتجمعيين الذين أسقطهم الشعب بالثورة بعد أن أسقطوا العشرات من أبنائه وبناته البررة برصاص الغدر. سيتاح لهم التّقدّم للانتخابات القادمة، وإذا جرت هذه الانتخابات في مناخ رجعي تبدو بعض مؤشّراته ظاهرة بمقتضى سياسة تيئيس الشّعب و”تفديده” وتحسيسه بالنّدم وبكون تضحياته ذهبت سدى، يمكن للفاشيّة الدستوريّة أن تعود، لكن هذه المرّة من باب الانتخابات “الشّفّافة والنّزيهة” وهذا لو حدث سيكون قمّة المهزلة والمأساة. كلّ ذلك بفضل صفقات بائسة لحركة رجعيّة لا علاقة لها بالثورة ولا بنضالات التونسيين من أجل الحرية والعدالة التي قلنا منذ عقود أنها لن تتحقق مع التجمع الدستوري ولا بالتعاون معه بل على أنقاضه وفي خضمّ النّضال ضدّه. وها هي حركة النهضة الرجعية تفرض على شعبنا وقواه الثورية العودة الى أمس خلناه طُوي. إنّ تصويت النهضة مضافا إلى مجمل سياساتها يشكّل بكلّ المعايير طعنة لمسار الثورة، لأنّ الموقف المبدئي يفرض محاسبة النظام الذي قهر ونهب وعذّب وشرّد واضطهد شعبنا لأكثر من نصف قرن، والإطار الأسلم لهذه المحاسبة هو مسار العدالة الانتقالية التي عطّلتها النهضة وحلفاؤها. ولقد ناضلت القوى الثورة والفعاليات المناضلة للمجتمع المدني من أجل الشروع في هذا المسار، لكن إرادة الأغلبية الرجعية في التأسيسي فرضت خطى السلحفاة بما أكّد أنّ هذه الحركة غير جادّة في تطبيق هذا المسار. ولمّا كان إصدار القانون الانتخابي ضروريّا لإنجاز الاستحقاقات الانتخابية التي يُفترض إجراؤها نهاية العام، كان من الضّروري والحالة تلك من فصل يفصل القول في موضوع الدساترة الذي طفا من جديد على الساحة بعودة وزراء بن علي وأعضاده الذين من المفترض أن يكون مكانهم الطبيعي المحاسبة والمحاكمة، وهذا الفصل لن يكون سوى تقنين استبعاد إطاراتهم العليا من المشاركة في الانتخابات المقبلة في انتظار عرضهم على المساءلة والمحاسبة ضمن مسار العدالة الانتقالية. لكن للنهضة قول آخر كان مرّة أخرى ضدّ الشعب وضدّ حتى “الطيبين والمغرّر بهم” من قواعدها وجماهيرها، علما وأنّ جزء من نوّابها استقال ليلتحق بحزب القيادي السابق “رياض الشعيبي” الذي يبدو أنه يرفض هذه العلاقة مع حزب التجمع.
شعبنا لن يقبل بالدّساترة وبالنّهضة معهم
إنّ شعبنا الذي رسم صفحات لن تُمحى في كرّاس الثّورات العالميّة لن يقبل بتزوير إرادته ولا بالدّوس عليها. وهو لن يقبل بعودة جلاّديه كائنا ما كانت الظروف والمعطيات، وهو أمر أثبته أكثر من مرّة سواء في علاقة بجلاّديه القدامى ممثّلين في حزب الدّستور ودولة الاستبداد والنّهب والفساد، أو جلاّديه الجدد، جوقة الفاشلين الذين أذاقوه في عامين أكثر ممّا ذاقه طيلة عقود من حكم حزب الدستور بنسخه المتعاقبة، وإنّ التّصويت على إلغاء الفصل 167 إضافة إلى الإخلالات الأخرى في القانون الانتخابي، كلها ستكون أسبابا إضافيّة لموجات لاحقة من الغضب والرّفض، فالشعب لم يثر ليعوّض استبدادا باستبداد ولا دكتاتوريّة بأخرى، إنّه ثار ليعوّض كلّ ذلك بالحريّة والكرامة والعدالة وقد لخّصت مجمل الشعارات المرفوعة قبل الثورة وبعدها تطلّعات شعبنا لغد أفضل يكون فيه سيّدا على ثرواته وبلاده لا تابعا في قوّته وخياراته وفي تسيير شؤونه. إننا في حزب العمّال إذ نرفض هذا الالتفاف الجديد على مسار الثورة وشعاراتها، فإننا سنكون إلى جانب شعبنا في رفضه لهذا القانون الانتخابي وخاصّة في رفضه لعودة التجمّع الدّستوري المجرم من الشّبّاك بعد طرده من الباب، وإنّ غدا لناظره لقريب.