بقلم الاستاذ محمود مطير
انطلقت الأعمال التّحضيريّة للمؤتمر الاقتصادي الوطني المزمع عقده في 28 ماي 2014 بتونس العاصمة. وقد دعت حكومة جمعة “المؤقّتة جدّا” لهذا المؤتمر كلّ الأحزاب الممثّلة بالمجلس الوطني التّأسيسي إضافة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل واتّحاد الصّناعة والتّجارة واتّحاد الفلاّحين. وطرحت الحكومة 10 محاور للنّقاش ضمن اللّجان التّحضيريّة.
إنّ حوارا وطنيّا حول المسائل الاقتصاديّة في الظّرف الرّاهن المتّسم بتفاقم الأزمة الاقتصادية والماليّة أمر محمود موضوعيّا. ولكنّ الإطار العام للحوار والخلفيّات وطريقة التّنظيم تجعل هذا الحوار مغشوشا لا يهدف إلى خدمة البلاد والشعب بقدر ما هو في خدمة أجندا محدّدة مسبقا تهدف إلى تطبيق إملاءات المؤسّسات الماليّة الدّوليّة وعلى رأسها صندوق النّقد الدّولي.
وتبدي الحكومة رغبة شديدة في الحصول على موافقة الأحزاب والأطراف الاجتماعية على ما ستطرحه من مواقف ممّا يعزّز موقف هذه الحكومة التي تبدو ظاهريّا دون قاعدة ومساندة سياسيّة في حين يدعمها سرّا حزبا النّهضة ونداء تونس في إطار اتّفاق مفروض من الخارج لا يزال يشوبه الغموض.
وسنبيّن فيما يلي من خلال ورقات العمل التي قدّمتها الحكومة ومن خلال الجلسات التّحضيريّة لبعض اللّجان التوجّه العام لهذا الحوار.
بخصوص أهداف المؤتمر
يهدف المؤتمر الاقتصادي الوطني من وجهة نظر الحكومة إلى”التأسيس لحوار وطني حول الخيارات الاستراتيجية لمنوال تنمية جديد للمرحلة القادمة” ولسائل أن يسأل هل يمكن لحكومة مؤقتة – لا يتجاوز عمرها الافتراضي 8 أشهر جاءت عبر الحوار الوطني “السياسي” لتوفير أدنى الظّروف لإعداد الانتخابات – أن تؤسّس لحوار وطني حول الخيارات الاستراتيجيّة لمنوال تنمية جديد للمرحلة القادمة؟
إنّ الحوار الوطني حول الخيارات الاستراتيجية لا يمكن أن يتمّ إلاّ في ظلّ حكومة منتخبة لمدّة نيابيّة طويلة تجعلها قادرة على تنفيذ الاختيارات المحدّدة، أمّا الحكومة المؤقّتة فهي غير قادرة على تنفيذ أيّ اختيار لضيق الوقت أوّلا ونظرا إلى أنّ هذه الحكومة لا تتمتّع بسند سياسي قوي – نظريّا وظاهريا – إلاّ إذا صحّ ما سمعناه عند زيارة جمعة إلى الولايات المتّحدة الأمريكية في رغبة هذه الأخيرة مواصلة حكومة جمعة الحكم بعد الانتخابات. وقد عبّر عن هذا الرأي أوّلا جماعة النهضة ثم أصحاب النداء.
إذا صحّ هذا الكلام وتأكّد- وفي هذه الحالة فقط – يصبح مقترح الحكومة فتح حوار حول المسائل والقضايا الاستراتيجية أمرا متاحا ولكن هذا يؤكّد لنا أيضا أنّ هذه الحكومة لا تمثّل خيارا توافقيا بل هي حكومة مسقطة ومفروضة من الخارج وبعيدة كلّ البعد عن هموم الشّعب التونسي وعن مشاكل وأوجاع الوطن. في هذه الحالة ستكون حكومة جمعة حكومة الاستعمار الجديد قلبا وقالبا حكومة لا تختلف عن حكومات بن علي وبورقيبة ومن قبلهما البايات.
هل يمكن لعشرين حزبا أو أكثر تختلف في خلفيّاتها الفكريّة ورؤاها السياسيّة والاقتصاديّة أن تحدّد مجتمعة منوال تنمية؟
ممّن تسخر حكومة جمعة؟ هل يمكن أن يتّفق الإسلاميّون النهضاويّون الذين يمثّلون اليوم الليبرالية المتوحّشة في أبشع صورة والذين يدافعون عن الاقتصاد الحرّ في شكله البدائي ويتعاملون بمنطق الرأسمال في مرحلته البدائية “دعه يعمل دعه يمر” والذين يرون حلّ المشاكل الاجتماعية عبر الصّدقة والزّكاة مع الاشتراكيين أو الشيوعيين الذين يضعون المسألة الاجتماعية في صدارة اهتماماتهم ويعتبرون أنّ الدّولة تلعب دورا محوريّا في الاقتصاد بصفة عامة وفي التّنمية بصفة خاصة؟ ثمّ كيف سيكون منوال التنمية هذا الذي سيتّفق عليه هذان الطّرفان على الأقل؟ هل سيكون مثل سفينة نوح نضع فيه من كلّ صنف وكلّ نوع…؟
يبدو أنّ حكومة جمعة غير جدّيّة أو تستبله الشّعب التونسي أو أنّ الشّعب التونسي خارج التاريخ وأبله وغبيّ. لماذا؟ فقط لأنه قد تمّ تحديد كلّ شيء من وراء ظهر الشعب التونسي وراء الحدود ومع السّفراء أصدقاء جمعة وجماعته.
بخصوص محاور النقاش
حدّدت الحكومة عشرة محاور للنّقاش وتثير هذه المحاور الملاحظات التالية:
هناك محاور ذات بعد استراتيجي أو هيكلي ولا يصحّ من منطلق وطني مستقل من منطلق ديمقراطي مناقشتها حاليّا أي في ظلّ وجود حكومة مقيّدة زمنيّا وضعيفة سياسيّا. ونذكر من بين هذه المحاور: المؤسّسات العموميّة – التنمية الجهوية – ميثاق الاستثمار- التنافسية والانتاجية – الدعم.
إنّ طرح نقاش حول هذه المحاور يطرح نقاشا حول منوال التّنمية الذي نريده والذي لا يمكن أن يكون محلّ اتّفاق أو إجماع بين جميع الأطراف الاجتماعية والأحزاب السّياسيّة.
فالدعم (أو التعويض) مثلا الذي تعتبره الحكومة الحاليّة وبعض الأطراف المتّفقة معها دعما للفقراء لا يوجّه في الواقع للفقراء. الدّعم موجّه لرأس المال. الدعم هو أجر تكميلي تدفعه الدّولة عوضا عن المؤجّر لتساعده في كلفة الإنتاج. وقد بدا هذا التّوجّه في السّبعينات من القرن الماضي مع سياسة التّفتّح الاقتصادي والتي مكّنت العديد من المؤسّسات الاقتصاديّة الأجنبيّة من الاستثمار في تونس بحثا عن اليد العاملة البخسة (قطاع الملابس الجاهزة خاصّة حيث يستغل المستثمر الأجنبي اليد العاملة النسائية).
وتطرح مسألة الاستثمار أيضا منوال التنمية الذي نريده ممّا يعني أنّ المسألة لا يمكن حلّها في إطار حوار يدوم بضعة أيّام. ويمكن أن نقول نفس الشيء بالنسبة للتنمية الجهوية أو المنافسة.
هناك محاور مطروحة لا تتطلّب حوارا أو نقاشا ولكنها تتطلّب فقط أن تقوم الحكومة بدورها التّنفيذي وتطبّق القانون أو تأخذ إجراءات استعجالية لتطبيق القانون. ويمكن أن أذكر هنا المحاور المتعلّقة بالعجز التّجاري أو التّهريب والاقتصاد الموازي أو المقدرة الشرائية وحتى التوازنات المالية.
فالعجز التّجاري مثلا تتطلّب معالجته اتّخاذ بعض الإجراءات التنفيذية مثل التّنقيص من توريد بعض المواد التي لا تعتبر أساسيّة (التنقيص من توريد السيارات مثلا) كما يجب العمل على تطوير الصادرات (إيجاد حلول استعجالية لتصدير الفسفاط مثلا) والحرص على تنمية السّياحة. أمّا التّهريب والاقتصاد الموازي فيتطلّب اليوم تطبيق القانون بحزم وتوفير الإمكانيّات الضّروريّة للمصالح السّاهرة على المتابعة (الأمن والجيش والديوانة).
ولكن أهمّ ما يثير الانتباه بالنسبة للمحاور المطروحة للنّقاش هو أنّ طريقة طرح المحاور تدلّ على النّتائج المرجوّة منها أو المنتظر حصولها أو على الأصح المقرّرة مسبقا إذ أنّ التّسميات تحمل دلالات على النتائج. فالمحور المتعلّق بالدعم يحمل عنوان: ” ترشيد الدعم” ممّا يعني أنّ الهدف هو التنقيص من الدعم ذلك أنّ التّرشيد يعني ضرورة التّنقيص في حين كان من المفروض أن تطرح الحكومة للنّقاش حوارا حول الدّعم وهو ما يترك الباب مفتوحا لكلّ الاحتمالات ولكلّ الحلول (التنقيص من الدعم – حذف الدّعم – المحافظة على الدعم – الزيادة في الدعم – تغيير أشكال الدعم… ربط التّنقيص من الدعم بالترفيع في الأجور). وطريقة الطّرح هذه تدلّ أنّ النيّة ليست حسنة وأنّ الهدف محدّد مسبقا.
أمّا المحور المتعلّق بالتّشغيل فقد جاء تحت عنوان “مبادرة التشغيل” وهذا يعني ضرورة أنّ التّشغيل مسألة لا تهمّ الدّولة باعتبارها مشغّلا وتهمّ المسألة الخواص فقط. في حين ينحصر دور الدّولة في تشجيع المشغّلين الخواص وذلك بتمكينهم من بعض الامتيازات الجبائيّة أو التغطية الاجتماعية وبالتالي تكرّس الدّولة مبدأ التّقشّف وعدم الانتداب في الوظيفة العمومية.
ويطرح محور “ميثاق الاستثمار” نقاش مشروع مجلّة الاستثمار الذي تمّ إعداده منذ مدّة وتنتظر الحكومة الفرصة المواتية لتمريره. ويحمل مشروع هذه المجلة الكثير من المخاطر في شكله الحالي. وتتعلّق المخاطر خاصّة بتكريس تبعيّة اقتصادية وقضائية (نظام التحكيم الدّولي).
كما يطرح محور”التنافسية والإنتاجيّة” نقاشا حول كلفة الإنتاج وبالتالي سيتعرّض إلى الأجور والحقّ في الإضراب والاتّجاه هو المحافظة على الأجور على حالها (أي تجميدها) إذا لم يتمّ الزّيادة في الإنتاجيّة (أي العمل أكثر وعدم الإضراب للمطالبة بالحقوق)
بخصوص آليات الحوار
جاء في وثيقة الحكومة المتعلّقة بالحوار الاقتصادي الوطني أنّ إدارة الحوار تتطلّب التّوافق من جهة أولى والسرية من جهة ثانية.
- بالنسبة للتّوافق حول مسائل استراتيجية وهيكلية بين أحزاب ومنظمات تختلف في الرّؤى والأهداف والمصالح لم تبيّن الحكومة على أيّ أساس سيتمّ التّوافق وبأيّ آلية سيتم هذا التّوافق (التّصويت – الإجماع…) كما لم تطرح مناقشة الآليّة على المشاركين في الحوار.
- أمّا بالنسبة للسريّة فقد أكّدت الحكومة على ضرورة المحافظة على سرّيّة الحوار والنقاش داخل اللجان. لذا لم يحضر الصّحافيّون عند انطلاق أعمال اللّجان بل إنّ الصحافيّين ليس لهم أيّ علم بانطلاق أعمال اللّجان.
ولسائل أن يسأل لماذا التّأكيد على السّرّية ؟ ثمّ السّرّية على من؟
السّرّية بالنّسبة إلينا تعني أنّ الحكومة تريد أن تمرّر قراراتها المعدّة مسبقا بقطع النّظر عن مواقف الأطراف المشاركة في الحوار، ذلك أنّ العلنيّة تبيّن موقف كلّ طرف من المسائل المطروحة للنّقاش أمّا السّرّية فمن شأنها طمس كلّ المواقف الخاصّة ولا يظهر في النهاية إلاّ موقف واحد “متّفق عليه”.
وإذا علمنا أنّ التّقرير النّهائي للحوار الذي سيقدّم في المؤتمر ستعدّه لجنة متكوّنة من ممثلي الإدارات العمومية المشاركة في الحوار نفهم أنّ السّرّية هدفها إبراز موقف واحد وهو موقف الحكومة وتبدو الحكومة هكذا مدعومة دعما تامّا من كافّة الأحزاب والمنظّمات.
السّرّية تعني أنّ الشّعب التونسي لا يجب أن يطّلع على ما يدور داخل القاعات المغلقة وهذا يعبّر عن تخوّف الحكومة الحاليّة من نتائج الحوار. وفعلا يمكن أن يكون لهذا الحوار نتائج وخيمة ذلك أنّ الخيار المطروح اليوم بخصوص الدّعم يتمثّل في رفع الدّعم حاليّا بصورة تامّة أو بصورة تدريجيّة كما تطرح الحكومة بالنّسبة للمؤسّسات العموميّة التي تعاني مشاكل ماليّة مرتبطة بالتسيير والتفويت في هذه المؤسسات ممّا يطرح مشاكل تتعلّق بالتّشغيل خاصّة وإمكانيّة طرد العمّال والموظفين.
بخصوص تاريخ المؤتمر
تمّ تحديد تاريخ 28 ماي 2014 لانعقاد المؤتمر الاقتصادي الوطني ورغم تأخير انطلاق أشغال الأعمال التّحضيرية ضمن اللّجان ورغم تعثّر أعمال اللّجان فإنّ الحكومة متمّسكة بهذا التاريخ. ونعتقد أنّ سبب ذلك هو أنّ صندوق النقد الدّولي قد حدّد تاريخ 05 جوان 2014 لتعبّر الحكومة عن التزامها بالشّروط التي فرضها الصّندوق حتى يمكّن الحكومة من بعض القروض. وتتعلّق الشّروط خاصّة بسياسة التقشّف ورفع الدّعم وبمجلة الاستثمار.
ختاما يمكن القول أنّ حكومة جمعة تبحث عبر المؤتمر الاقتصادي الوطني عن غطاء لسياسة اقتصادية واجتماعية معادية للطّبقات الشعبية ولا تخدم المصالح الوطنية بل إنّ هذه السّياسة ترتهن البلاد للمؤسّسات الماليّة الدّوليّة. والمطلوب من الأحزاب والمنظّمات الاجتماعيّة مساندة الحكومة حتى لا تبدو منفردة بالقرارات اللاّشعبيّة.
حكومة جمعة تبحث عبر المؤتمر الاقتصادي الوطني عن غطاء لسياسة اقتصاديّة واجتماعيّة معادية للطّبقات الشّعبيّة ولا تخدم المصالح الوطنيّة، بل إنّ هذه السّياسة ترتهن البلاد للمؤسّسات الماليّة الدّوليّة. والمطلوب من الأحزاب والمنظّمات الاجتماعيّة مساندة الحكومة حتى لا تبدو منفردة بالقرارات اللاّشعبيّة