كشف الارتفاع اللاّمتناهي لنسب البطالة وتفشّي ظاهرة التشغيل الهش عُمق الاخلالات الهيكلية التي يواجهها منوال التنمية بالبلاد التونسيّة وانكشفت أكذوبة “النموذج الاقتصادي التونسي“. لقد نخرت البطالة أغلب الفئات الاجتماعية والعمريّة والمستويات التعليميّة خاصة الإناث وحاملي الشهادات العليا وهمّشت الجهات الداخليّة وحرمت من مقوّمات الحياة الكريمة.
إنّ واقع التشغيل اليوم هو نتاج لتدابير مرتجلة تناولت ظاهرة البطالة بصفة سطحيّة وظرفية. ممّا ساهم في تعميق الإشكاليات بدلا من استئصال المرض. ولأنّ البطالة تمثّل إهدارا للموارد البشريّة ورأس المال الاجتماعي والبشري فإنّ تحقيق مقوّمات الرَفاه الاجتماعي والاقتصادي يبقى دائما رهين إيجاد المخارج والحلول لهذه المعضلة.
إنّ التشغيل وثيق الارتباط بجملة من المبادئ والحقوق والحريّات الدّستورية التي أقرّها دستور 2014 كالحق في العمل (الفصل 40). وكانت المحكمة الإدارية قد أقرّت “ أنّ الحق في العمل حق دائم نصّت عليه توطئة الدستور وأقرّته جلّ الإعلانات والمواثيق الدولية بالنظر إلى مكانته بالنسبة للفرد والدّور الذي يلعبه على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي فإنّه من حقّ كلّ فرد المطالبة به بكلّ حريّة…” (تجاوز سلطة، 15 جويلية 2005، القضية عدد 14173) وهو مرتبط بقيم الكرامة (الفصل 23) والحقّ في المساواة (الفصل 21) ومبادئ “العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات… والاستغلال الرّشيد للثروات الوطنية” على معنى الفصل 12 من دستور 2014. هكذا تكون معالجة التشغيل في جميع مفرداته واجبا دستوريا محمولا على أصحاب القرار السياسي.
أعدّت الدولة التونسية استراتيجية وطنيّة للتشغيل في أُفق 2017 كنت شخصيّا من المشرفين على هندستها وإعدادها سنة 2012. والغريب أنهّا لازالت مُعطلّة وقابعة في رفوف وزارة التكوين المهني والتشغيل رغم ما أُستثمر فيها من الأموال الطائلة والموارد البشريّة للدولة.
تؤسّس الاستراتيجية الوطنية للتشغيل بالبلاد التونسية أوّل منوال للتشغيل ويقوم على ثلاثة أهداف كبرى:
1- هدف كمّي: مواطن شغل أكثر.
2- هدف نوعي: عمل لائق ودائم.
3- هدف قيمي: عدالة في توزيع الشغل بين الجهات).
تقدم الاستراتيجية الوطنية للتشغيل، وفق منهج علمي متماسك، أكثر من مائة وخمسين من الإجراءات الاستراتيجية تمثّل حلولا جذريّة ومعمقة تستأصل الأسباب الحقيقة المتسبّبة في البطالة وتجعل من التّشغيل الهدف المشترك والأسمى في الخيارات الاقتصادية الكلية والتنموية والاجتماعية وغيرها. ولو وقع تفعيل الاستراتيجية ومتابعتها، لتقلّصت نسبة البطالة إلى أقل من 10% سنة 2017. وتفيد التجارب المقارنة أنّ تنفيذ استراتيجيات التشغيل ومتابعتها بالتحيين والتقييم على غرار الصين والكامرون والطوقو والأردن وكندا ودول الاتحاد الأوروبي ساهم بصفة متفاوتة في إحداث ديناميكية في سوق الشغل عرضا وطلبا وذلك بإطلاق قوى التشغيل والتنمية المعطّلة وخلق مواطن شغل لائقة وموزعة بصفة عادلة بين الجهات والفئات.
إنّ التشغيل يجب أن يعالج في إطار توجّه تنموي شامل يقوم على رأس المال البشري كطاقة يجب استثمارها بالتنسيق والتكامل الفعّال بين جميع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة وجعل التشغيل في صدارة أهدافها.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من الفطنة لنعلم أنّ المقاومة الحقيقية لإشكاليات البطالة لا يمكن أن تكون إلاّ بدفع الاستثمارات في رأس المال البشري أوّلا وفي جميع القطاعات الاقتصادية لخلق مؤسّسات قادرة على امتصاص المعطّلين عن العمل والقيام بإصلاحات في الخيارات الاقتصادية والجباية والمالية والبنكيّة والإجراءات الإدارية والبحث والتجديد وإطلاق قوى التشغيل المعطلة في الجهات وغيرها.
يعاني سوق العمل من سياسة ارتجالية تقوم على ثلاثة عناصر فاشلة.
أولا: إغراق السوق بالبرامج والآليات الهشة.
ثانيا: الاعتماد على المقاربات الجزئية والمفكّكة وذلك بالتحرّك على بعض الواجهات كالقروض الصغرى والتشغيل بالخارج وإهمال المقومات الأخرى.
ثالثا: قياس تطوّر سوق العمل بتطوّر نسب النمو.
إن الرّهان الأصعب، لا يتمثل في استنباط أفكار متجدّدة بقدر ما يتمثل في القطع مع المقاربات القديمة. تعتمد المقاربة السائدة على قياس تطوّر إحداثات مواطن الشغل بنسب النمو بمعزل عن التنمية أي التوزيع العادل للنموّ بين الجهات والفئات وخلق القدر الكافي من مواطن شغل لائقة. وتؤكّد المؤشّرات الإحصائية أنّ ارتفاع معدّلات نموّ الناتج المحلّي السنوي لتونس منذ سنة 1960 إلى اليوم لم يترافق في جلّ مراحلها مع استيعاب الطلبات الإضافية السنوية للشغل ممّا أدّى إلى ارتفاع معدّلات البطالة بشكل تراكمي. حيث حقّقت تونس معدل نمو ب 4.8% في الفترة المتراوحة بين سنة 1990 و2010 ورغم ذلك ارتفعت معدّلات البطالة.
ويبيّن الجدول التالي أنّ النموّ لا يمثّل مؤشّرا حاسما في التغلّب على البطالة وبالضّرورة فنصيب التشغيل من النموّ يتفاوت من عشرية إلى أُخرى.
تطوّر نسبة نمو التشغيل لكل نسبة نمو اقتصادي بـ 1%
الفترة |
1971-1981 |
1982-1991 |
1992-1996 |
1997-2010 |
نمو التّشغيل |
% 0,34 |
% 0,84 |
%0, 71 |
% 0,55 |
تدلّ مؤشّرات سوق الشغل ونسب البطالة وطنيا وجهويّا على قصور منوال التنمية المعتمد في السنوات الماضية حيث لم يكن قادرا على استيعاب الطلب الإضافي وتقليص مخزون البطالة. وفي غياب سياسة تشغيلية بالبلاد التونسية، يشهد سوق الشغل تشوهات بالجملة. سوف نبين في الجزء الثاني من الدراسة أنّ سوق العمل هي سوق المتناقضات بامتياز: ضعف في نسبة القوى العاملة، انخرام التوازن الجهوي في توزيع الثروة وفرص العمل، تدنّي مساهمة المرأة في سوق العمل، ارتفاع لنسب بطالة الشباب وحاملي الشهادات العليا… سنكتشف أنّ مأساة البطالة بالبلاد تكمن في جملة الإخلالات والخيارات الخاطئة المرتبطة بمنوال التنمية المنتهج (وهو موضوع الجزء الثالث) فلا بدّ من التحرّك عبر مجموعة من التدابير الاستراتيجية من أجل شلّ تأثيراتها وتصويبها في اتّجاه التشغيل إذا أردنا إنقاذ سوق الشغل وإيجاد الحلول الاستراتيجية التي من شأنها أن تقتلع آفة البطالة من العمق (الجزء الرابع).
أكرم بالحاج رحومة