بقلم محمد سميح الباجي عكاز،
إمّا أن يكون المثقف ثائرا أو لا يكون… إمّا أن تكون الثقافة للفرح الكونيّ ضد كلّ ظلاميّة أو لا تكون.
مهدي عامل
هكذا عرّف الثائر والمفكّر اللبناني مهدي عامل الثقافة الثوريّة التي تكون حاملة للبعد التقدميّ ومشروع ترسيخ ما تحمله الثورة من معاني وقيم. في تونس التي تعيش منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات على وقع الثورة، تبدو الإنتاجات الثقافيّة متنوعة بين تلك التي حافظت على مسالكها الطبيعية، في دور الثقافة والمسارح وأخرى اتخذت من الفضاءات العمومية الغير تقليدية كالمقاهي والشوارع مجالات لتقديمها وطرح مشروعها على العموم.
ثقافة التلقين والقوالب الجاهزة
بدا المشهد الثقافيّ الرسمي في تونس ما بعد الثورة مربكا ولم يكن في مستوى التغيير السياسيّ والتحفزّ الشعبيّ لكلّ ما هو جديد، كنتيجة حتميّة لما عانته الساحة الثقافيّة لعقود من تحديد للإنتاج كمّا وكيفا عبر ربط النشاط الثقافيّ بالمؤسسّات الرسميّة على مستوى الدعم والرقابة والتراخيص وفضاءت العرض. كما شهدت الساحة الثقافية محاولات إختراق من جميع الأطياف السياسيّة في مُحاولة لفرض تصوراتها الخاصّة وأنماط تفكير تخدم مصالحها السياسيّة وتوجهاتها العامّة.
ولم تكن حالة التردي الثقافي وليدة اللحظة، بل كانت نتيجة تراكمات لسلسلة من الاختيارات والتوجهات الرسميّة للنظام التونسي السابق الذّي لم يشذّ عن تيار عام ضرب كل القيم والمبادئ والمعاني السامية في سبيل المادة وتكريس السطحيّة والهاء العموم عن الشأن السياسيّ، بل وسعى هذا الأخير إلى التضييق على المثقّفين الرافضين لواقع الحياة الثقافيّة سواء بحجب أعمالهم ومنعها أو بقطع الدعم والتتبّع الأمنيّ, وقد سجّل التاريخ أمثلة عديدة لمبدعين ومثقّفين تمّ تغييبهم عن المشهد الثقافيّ وتفقير انتاجاتهم وتهميشها من أمثال فاطمة سعيدان، جليلة بكّار، فاضل الجعايبي، نوري بوزيد، توفيق الجبالي وغيرهم من المبدعين الشبّان كبديعة بوحريزي وبيرم الكيلاني “بنديرمان”، الذّين حاولوا الخوض في ما كان يعتبره النظام مواضيع محرّمة كمسألة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان والخيارات الاقتصاديّة للنظام.
وفي المقابل، لعب أشباه المثقّفين الذين استفادوا طويلا من دعم النظام الحاكم دورا أساسيا في تشويه المناخ الثقافي وإشاعة الرداءة و ذلك تماشيا مع ما أُسند لهم أو لانتصارهم للجانب الماديّ على حساب جودة المنتوج الثقافي.
إذن تقاطعت مصلحة النظام الحاكم مع تخاذل أشباه المثقّفين وغياب المثقّف الذّي يُعايش مشاكل النّاس ويطرح الحلول العمليّة ويسعى لتغيير حقيقيّ على الأرض لا الاكتفاء بالتنظير من الأبراج العاجيّة، لتخلق مناخا من الميوعة والسطحيّة وغياب شبه كلّي لثقافة مقاومة وممانعة للواقع الرديء.
واختزلت الثقافات الوطنيّة في عروض الأزياء التقليديّة وبعض الأشرطة الوثائقيّة التاريخيّة التّي يبثّها الإعلام خلال المناسبات الوطنيّة أو العروض الموسيقيّة الرديئة التي أـكسوها رداء “الشعبيّة”.
و قد كان الهدف الرئيسيّ من هذه الممارسات هو طبع المجتمع بأخلاق العبيد كالاستكانة والطاعة المطلقة وتسطيح الوعي الجماعي منعا لتأسيس أرضية ثقافيّة قد تُمهّد لانتفاضة حقيقيّة ضدّ المنظومة ككلّ.
التمرّد الثقافي
بعد 14 جانفي 2011، تراخت القبضة الأمنيّة وتخلّص المثقّف التونسيّ من أهمّ معضلة، وهي الانقماع والرقابة الذاتيّة وكان من الطبيعيّ حينها أن تشهد الساحة الثقافيّة طفرة نوعية وكميّة كتجسيم لحالة الانعتاق والرغبة في تعويض ما فات من تصحّر ثقافي وسياسيّ. ولكن الفضاءات والمسالك الرسميّة كانت هذه المرّة عاجزة عن استيعاب هذه الموجة الجديدة من التصوّرات والرؤى لمستقبل العمل الثقافي في تونس، كما أنّ الجيل الشاب كان يطمح للعب دور أكبر وإحداث تغيير جذريّ في طبيعة النشاط الثقافي التونسيّ، فكان الظهور الأوّل للعلن لما اصطلح على تسميته “الثقافة البديلة”.
هذه الثقافة البديلة التي قمعت طويلا قبل الثورة، وُلدت من رحم مجموعات شبابيّة تطوّعت وتجنّدت لخدمة الحياة الثقافيّة بوسائل ذاتيّة محدودة ومتواضعة متحرّرة من العوائق البيروقراطيّة ومسالة التراخيص والارتباط بالتمويل العموميّ للفرق والجمعيّات، ولكّنها كانت ذات تأثير كبير على المشهد الثقافيّ في البلاد. فقد استطاعت أن تكسر النمطيّة المعهودة في النشاط الثقافيّ عبر السعي إلى ترسيخ ما حاول النظام قمعه وتغييبه انطلاقا من فكرة ثقافة المقاومة والالتزام بمشاغل وهموم الشارع والمواطن والعمل على استهداف فئة الشباب ونقل الإنتاج الثقافي من الفضاءات الكلاسيكيّة في المسارح ودور الثقافة إلى المقاهي والجامعات والشوارع.
تنوّعت هذه المجموعات والحركات الشبابيّة على صعيد التوجه والأنماط لتشمل المسرح كمجموعة “فنّي رغما عنّي” التي سعت إلى ترسيخ مفهوم فنّ الشارع ومسرح العموم بمعالجة فنيّة فريدة ترتكز على البعد التعبيريّ للغة الجسد والألوان لترجمة الواقع ونقده والدفاع عن المظالم التي تعرض لها العديد من الشباب بعد الثورة من أمثال صابر المرايحي.
أمّا على مستوى العروض الغنائيّة، فقد كان الامتياز لمجموعات الراب التي وإن كان ظهورها سابقا للثورة، إلاّ أنّ صيتها وانتشارها تضاعف بعد أن تغيّرت القضايا المطروحة وأصبحت هذه الأغاني تستهدف النظام مباشرة وتنقد بشكل صريح وجريء الواقع السياسيّ في البلاد مترجمة حالة اليأس الجماعي ونفور الشباب من المشهد الحاليّ للخارطة السياسيّة بكلّ مكوّناتها، وقد لمعت أسماء عدّة في هذا المجال كمحمد أمين حمزاوي، Klay bbj، Phynix والجنرال وغيرهم من الشباب الذي وجد في الراب متنفّسا لغضبهم والنمط الفنيّ الأمثل للتعبير عن رؤاهم بلغة الشارع كما يحلو لهم تسميتها.
الرسومات الحائطيّة أو “الغرافيتي” استطاعت بدورها أن تتجاوز الشعارات الرياضيّة والعبارات المفرغة من المعاني الملتزمة والإشارات الخاطفة للتحوّل إلى أحد أهمّ وسائل مقاومة الشباب لحالة التغييب عن المشهد العام في البلاد وتبليغ آرائهم للجميع، فظهرت على الساحة مجموعات شبابيّة كمجموعة “أهل الكهف” و”زواولة” و”حركة شباب تونس” التي جعلت من “الغرافيتي” الملتزم والحامل لمعاني ثورية وفلسفية فنّا ووسيلة تعبير تتمحور حول مفاهيم الحريّة وحقّ الإنسان في العيش الكريم والسيادة الوطنيّة وقداسة الثورة والنضال من أجل هذه القيم، وتناولت في أكثر من مناسبة قضيّة العدالة الاجتماعيّة وشهداء الثورة و المحاسبة ووقفت بقوّة ضدّ العنف الذي جوبهت به التحركات الاجتماعيّة في سليانة وقفصة والعمران… بل وتجاوزت المواضيع “المنشورة” حائطيّا” البعد المحليّ لتشمل قضايا دوليّة وعربيّة كالقضيّة الفلسطينيّة و قضيّة الأسير “جورج إبراهيم عبدالله”.
مواقع التواصل الاجتماعي لم تغب بدورها عن موجة التجديد الثقافيّ في تونس، فالشباب الذي لم يجد حظّه في وسائل الإعلام البصريّ الكلاسيكيّ في تونس، استطاع أن يجد في شبكة الانترانت عالما لا تحكمه القيود ولا يتطلب الكثير من الإمكانيات ممّا أدّى إلى ظهور العديد من الصفحات الثقافيّة والمجموعات الأدبية، كما انتشرت على الفايسبوك واليوتيوب العديد من الصفحات والمقاطع التي تتناول الشأن الثقافيّ والسياسيّ في البلاد بكلّ جرأة وصراحة، بل واستطاعت عديد البرامج والمشاريع أن تشقّ طريقها نحو النجاح بفضل الرياديّة وطرافة الأفكار المطروحة ولعلّ من الأمثلة الناجحة سلسلة “كابتن خبزة” التي تناولت بالنقد جميع الوجوه السياسيّة في إطار كاريكاتوريّ شدّ اهتمام الناس.
أمّا السينما فقد شهدت انتعاشة كبرى بعد 14 جانفي، واستطاع الشباب أن يجد المتنفّس لمعالجة كلّ القضايا والمشاكل والأحداث التي عايشتها وتعيشها البلاد في الوقت الراهن، وتصاعدت الرغبة من الجيل الجديد في فرض رؤاه على المشهد السينمائيّ الذي ظلّ محصورا لعقود ضمن أسماء محدّدة خصوصا عبر الأفلام القصيرة والوثائقيّة التي تعالج مشاكل العصر وتحاول الاقتراب أكثر فأكثر من الواقع.
الثقافة البديلة تخلق الفضاءات البديلة
العامل المميّز الثاني للثقافة البديلة، تمثّل في أماكن العرض، حيث لم تعد الفضاءات التقليديّة كالمسارح ودور الثقافة وحدها حاضنة للنشاط الثقافيّ، بل تحوّلت المقاهي والشوارع إلى دور عرض، وهو ما أحدث تغييرا جذريّا في مفهوم الثقافة، فبدل أن يسعى الفرد إلى التنقّل قصد ممارسة نشاط ثقافيّ ما، صارت الانتاجات الثقافيّة تسعى خلف المواطن مستهدفة شرائح أكبر وفئات متعدّدة، فتحوّلت العديد من المقاهي إلى ما يشبه المراكز الثقافية كفضاء “ماس’ أرت” الذي أقام العديد من التظاهرات الثقافيّة الموسيقيّة والمسرحيّة على غرار “ليالي مسار الرمضانيّة” سنة 2012، والتي شهدت مشاركة فرق شبابيّة اختارت لنفسها هي الأخرى رؤية جديدة لدور الفنّ وأهدافه ومضامينه التي تستجيب لمتطلبات المرحلة، كحفلة فرقة “الحمائم البيض”، بالإضافة إلى “أيّام سينما الحقوق والحريّات” في مارس 2013 وغيرها من الأنشطة الثقافيّة المرتبطة بالموجة التجديديّة، ومقهى « Liber’thé » الذي احتضن العديد من التظاهرات السينمائيّة كتظاهرة “سينما الحريّة” التي نظّمتها حركة شباب تونس طيلة شهر نوفمبر، أو أمسيات « Slam » الأسبوعيّة التي تتيح للشباب التعبير عن مواقفهم وأفكارهم وأحلامهم بشكل بسيط وفنيّ في آن واحد، وغيرها من الساحات والفضاءات الخاصّة والعمومية كفضاء « L’Artisto »، والتي أفسحت المجال أمام الطاقات الشبابيّة لتجد لها موقعا في الساحة الثقافيّة.
الشارع بدوره ظلّ الفضاء الأهمّ لتحركات الشباب والمجموعات الثقافيّة، فالغرافيتي فنّ شارع بامتياز بمعنى المجال المفتوح المتمثّل في جدران المدن التي تحوّلت إلى مدوّنات كبرى للأفكار والمواقف أو لتمرير رسائل سياسيّة أو ثقافيّة. بدورها كان لمجموعة “فنّي رغما عنّي” تواجد كثيف في الشارع واعتمدت على عروض مفتوحة للعموم لا في العاصمة فقط، بل في مختلف جهات البلاد كالقطار في قفصة وتوزر وطبربة، وهي سمة مميزة للحركات والمجموعات الثقافيّة الشابة التي تسعى لكسر مركزيّة الثقافة وجعلها في متناول كلّ الجهات عرضا وإنتاجا.
كما استطاعت هذه الأنشطة الثقافيّة أن تفرض تواجدها في الفضاءات الكلاسيكيّة من مسارح ودور ثقافة وأن تدخل ضمن برمجة العديد من المهرجات خصوصا عروض الراب التي أصبحت تجتذب شريحة واسعة من الشباب التونسيّ.
الثقافة البديلة والصدام
يعتبر مضمون هذه التحركات الثقافيّة متصّلا بالمناخ العام في البلاد الغارق في التجاذبات السياسيّة، حيث تصّر مختلف المجموعات الناشطة في هذا الإطار على محاربة انتكاسة المدّ الثوريّ وضرورة مواصلة النضال من أجل الشعارات الأولى التي رفعت منذ 17 ديسمبر 2010 المتعلّقة بالحريّة والكرامة والتشغيل. هذه الحركات لا تجد حرجا في إعلان مواقفها الرافضة للسائد بدءا بالمشهد السياسيّ الحاليّ وصولا إلى النمط الاقتصاديّ الذي يرون فيه استعمارا غير مباشر للبلاد وتكبيلا لتحرّرها وتطوّرها. وقد كلّفتها هذه المواقف صدامات عديدة مع السلطة تجسّدت في العديد التضييقات والملاحقات الأمنيّة خلال عروض الشارع ووصلت إلى حدّ المحاكمات كالتي تعرّض لها “ولد الكانز” و Klay bbj و Phynix نتيجة مهاجمتهم للنظام والبوليس في أغانيهم، أو محاكمة مجموعة “زوازلة” واعتبار رسوماتهم ورسائلهم الحائطيّة تهديدا للأمن العام,
ولم تقتصر نشاطات هذه المجموعات على الأنشطة الثقافية فحسب، بل امتدت إلى المشاركة في التحركات الاحتجاجيّة التي شهدتها البلاد في العديد من المحطات، سواء في الجهات أو في العاصمة، وهو ما يعتبرونه تكملة لرسالتهم الثقافيّة التي تسعى لخلق المثقّف الملتحم بالنّاس والفاعل في المجتمع والذّي لا يكتفي بالتنظير والنقد عن بعد، فلا معنى للنشاط الثقافيّ الذي يمارسونه إن انعزل عن المعطى السياسيّ من وجهة نظرهم.
إنّ الثقافة البديلة التي فرضت نفسها بشكل ملفت بعد 14 جانفي، تستوجب الوقوف على مدى قدرة الشباب على الخلق وكسر التضييق على كلّ ما هو غير مألوف، فبإمكانيات متواضعة ومعالجة فريدة للمضمون الثقافيّ، استطاعت هذه الحركات الثقافيّة أن تفتكّ نصيبا هاما من الاهتمام وأن تجد جمهورا من المتابعين الذين أحسّوا بمدى جديّة وصدق والتزام هذا النمط الثقافي الحديث بقضايا الناس ومشاغلهم الأساسيّة بعيدا عن كلّ الحسابات السياسيّة والحزبيّة الضيّقة.