بقلم جيلاني الهمّامي
التأمت مساء أوّل أمس الأربعاء 11 جوان الجاري جلسة الحوار الوطني للحسم في الخلاف حول الفصل بين الانتخابات التشريعية والرّئاسيّة وتسبيق إحداهما على الأخرى. وكان من المؤمّل أن تكون هذه الجلسة خاتمة سلسلة الاجتماعات المتتالية للانتهاء من هذه المسألة. ولكنّ النّقاش الذي استغرق أكثر من ثمان ساعات لم يتوصّل في النّهاية إلى حلّ وظلّ التّوافق المنشود مفقودا في الوقت الذي كان الجميع يحسّ بالضّغط العالي لعنصر الزّمن مع اقتراب موعد 23 جوان تاريخ انطلاق عمليّة التّسجيل.
1 – اختيارات متحوّلة وشبح الفشل يهدّد الحوار
فشل الحوار في التوصّل إلى حلّ توافقي كان أمرا متوقّعا وهو فوق ذلك فشل منطقي بمعنى ما إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة الخلافات ومضمونها. فقد انطلق الخلاف في البداية حول مسألة الفصل أو الجمع بين الانتخابات الرّئاسيّة والتّشريعيّة وكانت حركة النّهضة هي الوحيدة تقريبا التي تدافع عن الجمع وكلّ بقيّة الأحزاب المشاركة في الحوار الوطني مع الفصل عدا حزب المبادرة الذي نادى بتسبيق الدّورة الأولى من الرّئاسية ثم جمع دورتها الثانية مع التّشريعية. وفيما فُهم أنّ الفصل بات أمرا واقعا بما أنّ النهضة نفسها أبدت استعدادها لقبوله شرط تسبيق التّشريعية انتقل الحوار إلى النّظر في أيّ منهما سيكون الأوّل. وأفرزت الجلسات المتتالية اصطفافات مختلفة أفرزت في أولى جلسات الحوار، وللمرّة الوحيدة، ميل أغلبيّة طفيفة من بين الأحزاب لصالح التّشريعيّة.
لكن ومع تقدّم الزّمن وتواتر الجلسات تحوّل الموقف وظهر ميل معاكس تماما لصالح الرئاسيّة وأعطى التّصويت 11 حزبا مع تسبيق الرّئاسيّة و6 مع التّشريعيّة فيما احتفظ حزبان بصوتيهما. كان آنذاك من الممكن أن يحسم الأمر بحصول هذا التوجّه العام خصوصا بعد أن استمع الحاضرون إلى رأي الهيئة العليا للانتخابات ولعدد من الخبراء. غير أنّ الرّباعي لم يكن حازما واستمرّ في تمطيط النّقاشات بما ترك لدينا إحساسا بأنّه ينتظر ما قد يطرأ لتتبدّل المواقف لصالح التّشريعية. في الأثناء جرت فعلا الاتّصالات ومورس ما يشبه الضّغوط والمساومات وأصبح ضغط العامل الزّمني أكثر وقعا لذلك حين انعقدت جلسة أوّل أمس الأربعاء طرأت فعلا على مواقف بعض الأحزاب تغيرات (المبادرة والخيار الثالث وحركة الجمهورية الخ…) وبرز نتيجة لذلك ميل جديد نحو التّزامن والنّكوص عن موقف الفصل الحاصل في مستهل الحوار. وعلى إثر سبر الآراء في مرّة أولى أثناء هذه الجلسة أصبح هناك 8 أحزاب مع الرّئاسيّة و7 مع التّزامن و4 مع التّشريعية ثمّ في مرّة ثانية احتفظ حزب المبادرة ليصبح التّزامن يحضى بـ6 أصوات فقط وبقيت البقيّة على حالها.
وتبيّن للجميع أنّ الحسم المنشود قد أصبح أبعد ما يكون عمّا كان يُرجى في هذه الجلسة وعادت الضّبابيّة لتلفّ من جديد مآل الحوار، الأمر الذي استوجب الانكباب على نقاش الآليّة، أي الطريقة، التي ينبغي اعتمادها لحسم الخلاف. وبعد تداول طويل ومضني أعيد التّصويت ليعطي تقريبا نفس النتائج وبذلك أُسدل السّتار على هذه الجلسة على مشارف منتصف اللّيل ليعود الحوار في جلسة موالية يوم الجمعة 13 جوان الجاري دون أن يكون هناك مؤشّر على أنّ الحسم سيكون سهلا.
2 – حسابات وخلافات واحتمالات فشل
في ضوء ما سبق يبدو الحسم في الجلسة القادمة أمرا صعبا، اللّهمّ إلاّ إذا حصلت معجزة التّوافق الذي كثيرا ما يتردّد ذكره وفي كثير من الأحيان بمنتهى البراءة والحماس. وكما سبق قوله ليس في الأمر غرابة بالنّظر للحسابات الكامنة وراء هذا التّعطّل ويتأكّد ذلك مثلا بكلّ جلاء من موقف النهضة التي رفعت فيتو في وجه أيّ اتّفاق إذا لم يكن يتطابق مع رؤيتها أي إمّا التزامن أو التّشريعية أو لا شيء آخر غيرهما. فلا شيء يمكن أن يفرّق بين حلفاء الأمس في الترويكا وأعني النهضة والتكتل، بل لا شيء يمكن أن يفسّر الحدّة في تناقض مواقفهما وفي لهجة الجدل بينهما إلاّ الحسابات الخاصّة وتشبّث كلّ منهما برأيه بناء على تلك الحسابات. فحركة النّهضة تريد أن تسبق التّشريعية على الرّئاسية حتى تتّضح لها صورة موازين القوى في المجلس النّيابي القادم بعد صدور النّتائج ومن ثمّة وفي ضوء ذلك تنسج تحالف الحكم الذي يضمن لها الاطمئنان على الحكومة. وهو الأمر الذي سيسمح لها حينئذ بتقرير موقفها من الرّئاسة مع من سيكون حليفها في الحكومة. بلغة أخرى تقتضي حساباتها تأخير الرّئاسيّة لتستعملها في تسهيل تحالف الحكم الذي تريد وكذلك استعمالها كورقة ضغط في علاقة بالحلفاء الجدد وضمان رأسي السّلطة التّنفيذيّة. إنّ النّهضة تخطّط لضمان تحالف صلب ومدعوم من الخارج وقادر على الاستمرار لفترة طويلة، أي طيلة المدّة النّيابيّة القادمة لأنها تعلم أنّ بناء مشروعها المجتمعي ونظام الحكم على صورتها لن يتسنّى إلاّ على مدّة طويلة نسبيّا ودون قلاقل. وهي في حاجة إلى غطاء محلّي وتسامح خارجي وتنظيم الانتخابات على الصّورة التي تريد فرضها اليوم هو الطريق الأسلم والأمثل لتحقيق هذا الهدف.
في المقابل من ذلك تختبئ القوى الأخرى وخاصّة الديمقراطية منها وراء مصالح ضيّقة الحجم قصيرة المدى لا ترى ما وراء ضمان عدد قليل من المقاعد شيئا آخر تقريبا. وبدل أن تتّحد في الموقف الذي باجتماعها يفتح لها الطّريق للنّظر في الآفاق البعيدة لمسألة الحكم انكفأ كلّ طرف منها على حساباته الآنيّة فقط.
إنّ تسبيق الرّئاسيّة هو المدخل الوحيد، حين نتحدّث عن الانتخابات، لمنع تحالف حكم رجعي مدعوم من الخارج، تحالف صلب ستكون حركة النّهضة المستفيد الأكبر منه، تحالف هو الأقدر على إعادة إنتاج الاستبداد القديم في شكل “خلطة” ليبرالية إسلاموية. وحتى إن لم تمنع الرّئاسية من استبعاد هذا التّحالف بصورة جازمة فإنّها بالنّظر للصّراع الذي تجبر كلّ الأطراف على خوضه، طالما هي في انتظار الاختبار التشريعي، من شأنها أن تؤجّل هذا التّحالف ولو إلى حين.
هذه هي في الحقيقة الحسابات التي تحرّك كلّ المواقف كلّ حسب حجمه السّياسي الرّاهن وحسب حجم طموحاته. وما لم تهتد كلّ الأطراف إلى الحلّ الذي يلبّي انتظارات كلّ واحد منها يبقى التّوافق رغم كلّ اللّغط المثار حول “مصلحة الوطن” و”التّوافق” وما إلى ذلك من المصطلحات والتّراكيب اللّغويّة والبلاغيّة المدبّجة احتمالا صعبا على المدى المنظور.
3 – الخلاف ثمّ الخلاف في انتظار الأمر الواقع
إذا كانت هذه هي الحسابات فما السّبيل لتحقيق أهدافها؟ بات واضحا أنّ أفضل السّبل لذلك هو التّظاهر أكثر ما يمكن بالرّغبة في حسم المسألة بالحوار مع إضاعة الوقت أطول ما يمكن إلى أن يتكفّل العامل الزّمني بالباقي. فمعلوم أنّه كلّما اقترب موعد 23 جوان تاريخ الشّروع في التّرسيم أصبحت حظوظ تمرير التّزامن أقرب وأكبر بتعلّة أنّه ما عاد حتّى من النّاحية التقنية ممكنا فصل التشريعية عن الرئاسيّة وإلاّ سيقع خرق الدستور. وبطبيعة الحال من سيجرؤ على الإصداع بذلك دون خشية أن تقع شيطنته والتّشهير به على أنه منقلب على “مكسب” تونس الأكبر ومعارض للانتخابات وللديمقراطية؟ وليسمح لنا الرّباعي بالقول أنه المسؤول الأوّل على تيسير فصول هذه اللعبة حتى لا “نغامر” بالقول أنّه كان شريكا فيها من مدارج الملعب.