بقلم علي الجلولي
لم تكن دورة الباكالوريا لهذا العام عاديّة لدى الإطار التربوي كما لدى الرّأي العام الذي ظلّ متابعا عن قرب لهذه المناظرات الوطنيّة التي تشمل الآلاف من بناته وأبنائه، والجانب غير العادي يتمثّل في الازدياد الصّاروخي لظاهرتي العنف ضدّ الأساتذة والمراقبين منهم خصوصا، والغشّ الذي أصبح اليوم يُمارس على نطاق واسع وتتورّط فيه أطراف عديدة تستعمل آخر الصّيحات في عالم التكنولوجيا.
واحتجاجا على هذا التدهور المريع في المناخ التربوي نظّم أساتذة التّعليم الثانوي الذين يشاركون في الإصلاح إضرابا حضوريّا عن العمل صبيحة الثلاثاء 10 جوان بكامل مراكز الإصلاح وذلك بدعوة من النّقابة العامّة التي التقى وفد منها مع وزير التربية للاحتجاج على موجة تعنيف الأساتذة المراقبين التي جرت في عديد المعاهد وعديد الجهات ببن عروس وجندوبة وأمّ العرائس.. وكان أفظعها بالرّوحيّة (سليانة) حيث هجم مترشّح على أستاذ مراقب بكرسي واعتدى عليه بعنف شديد استوجب تدخّل الإسعاف، علما وأنّ السّبب الأساسي لكلّ عمليّات الاعتداء أو التّهديد به كانت محاولة الغشّ أو الشّروع فيه، وهو أمر واصل الوزير عدم التّعاطي معه بالجدّية التي تفترض اتّخاذ إجراءات عاجلة واحترازيّة للتّقليص من هذا الغول الدّاهم على فضائنا التربوي: غول العنف والغشّ.
حول الغشّ في الامتحانات
لاشك أنّ الظّاهرة في حدّ ذاتها ليست جديدة وهي تجد أسبابها في نمط السّلوك والمعاملات السّائدة في المجتمع الاستهلاكي الذي يعاني أفراده من حالة استلاب قصوى بحكم الفقر والحرمان، أو بحكم اللّهث وراء المادّة والرّبح، إنّ ضحيّة كلّ هذا هي القيم بما فيها ما كان يُعتقد أنه أرفعها مثل”احترام العلم وإجلال المعلّم”. إنّ عمق الأزمة جعلها تمتدّ لتطال كلّ شيء بما فيها مشاعر البشر وإنسانيته، وبطبيعة الحال فإنّ مجتمعا على هذه الشّاكلة لا يمكن أن يحتلّ فيه العلم والتّربية والثّقافة أيّ منزلة خاصّة، بل هي مجرّد مشغل من ضمن المشاغل التي يقع التّعاطي معها بنفس “قوانين السّوق” التي حوّلت الغشّ والقدرة عليه إلى دلالة ذكاء وفطنة وتفوّق، يسود هذا في ظلّ “وعي متنامي” أنّ العلم والتّعلّم لا يجلبان إلاّ “وجع الراس” وتسلّق السّلّم الاجتماعي وتحسين الوضع يمكن أن يكون عبر أنشطة أخرى محمولة على الذّكاء والاقتدار مثل النّشاط الرّياضي والفنّي، وكذلك ترويج المخدّرات والدّعارة وبيع الخمر والانخراط في شبكات التّهريب والإرهاب، أمّا العلم والتّعلّم فهو عزاء “عاشقي الفقر” والغفّل والفاشلين.
إنّ فضاء اجتماعيا/قيميا كهذا متزامن مع تراجع غير مسبوق لمحتويات ومضامين البرامج التي “نجح” بن علي ونظامه في تدميرها، لا يمكن أن تنتج إلاّ اتّساعا مطّردا للغشّ والعنف وكلّ الظّواهر غير التّربويّة. إنّ الفظاعة اليوم هو في تحوّل فكرة الغشّ إلى جزء من تركيبة التّفكير عند قطاع واسع من التّلاميذ والطّلبة الذين أصبحوا اليوم معزّزين بفرق مختصّة في الغش الالكتروني تتقاضى مقابلا إزاء ذلك، والناس يوميّا يتداولون أخبار هذه العصابات وآخرها تلك التي قبض عليها في الدندان وأريانة، كما يتداول البعض تورّط مواقع الكترونية معيّنة اختصّت بنشر الاختبارات على صفحاتها دقائق بعد توزيعها في الأقسام بما خلق بلبلة وشكوكا عند الرّأي العام حول تسرّب هذه الاختبارات من عدمه بما ضاعف في وضع التوتّر الموجود أصلا.
إنّ التّعاطي السّلبي لوزارة الإشراف مع هذه الظّاهرة السّرطانيّة إنّما يساهم في إعطاء ضوء أخضر للغشّاشين ولعصابات الغش، فالوزارة ترفض بعلل واهية التشويش على شبكة الاتّصالات في مراكز الاختبار، وهو مطلب رفعته نقابة الثانوي منذ سنوات، وهاهي نتائج عدم تطبيقه بادية للعيان.
إنّ الوزارة ومن ورائها الحكومة غير جادّة في التّعاطي مع هذه القضيّة الحيويّة، فالأمر يتعلّق بمصداقيّة الشّهادات وبتكافؤ الفرص بين المترشّحين، كما أنّها تتعلّق بفعل إجرامي جنائي، علما وأنّ القناعة الرّاسخة لدينا هي كون الإجرام الحقيقي هو ما ترتكبه هذه الوزارة وحكومتها في حقّ التّعليم والتّربية التي تشهد تقهقرا غير مسبوق على كافّة الأصعدة من مكانة المربّي المعنويّة والمادّيّة إلى تدهور المضامين إلى خراب البنية الأساسيّة التي وصلت حدّ غياب الماء الصّالح للشّراب في بعض المدارس إلى سقوط الجدران والسقف (آخرها منذ أسبوعين ببنزرت)، وفي عهد “حكومات ما بعد الثورة” أُغلقت مدارس بسبب الجرب والقمل والبوصفير… يحدث هذا والحكومة لا تستحي وتواصل المغالطة بقولها: “الوضع لاباس”
حول العنف الموجّه ضدّ الإطار التّربوي
لا شكّ أنّ بلادنا تعرف منذ مدّة “انفجارا” ضخما لكلّ مظاهر العنف المعنوي منه والمادّي الذي يعرف اليوم استشراء غير مسبوق في بلادنا وصل حدّ الإرهاب ولا شكّ أنّ للفضاء التّربوي نصيبه من هذا المنسوب العالي للعنف، وقد سجّلت نقابات التّعليم ومنظّمات المجتمع المدني تزايد الاعتداءات على الإطار التّربوي من أساتذة ومعلّمين وحتّى على إداريين وعملة، وذلك من قبل تلاميذ أو أوليائهم أو آخرين على خلفيّة ممارسة المهام التربوية.
وقد كان تعاطي سلطة الإشراف في المجمل سلبيّا إذ عوّض دقّ ناقوس الخطر واتّخاذ إجراءات جذريّة للتّصدّي لهذه الظّاهرة التي أصبحت سمة لمدارسنا ومعاهدنا، راحت تتصادم مع النّقابات ومع القاعدة التربويّة بكلّ أصنافها وهاهي اليوم تخوض صراع كسر العظام مع الأساتذة والمعلّمين والمتفقّدين، وهو طبعا صراع خاسر لأنّ إرادة التّدجين أثبتت فشلها.
لقد أثبتت هذه الحكومة أنها ليست سوى تواصل للحكومات الرجعيّة التي تربّعت على الحكم منذ فرار بن علي، وسياستها الفاشلة لن تزيد العنف الموجّه للمربّين إلاّ اتّساعا، وما حدث في الأيّام الأخيرة بمناسبة امتحانات الباكالوريا هو مجرّد عيّنة ممّا يعانيه الإطار التّربوي من ضغط بمناسبة أدائه لمهامّه التي يتوقّف عليها مستقبل الشعب والبلاد، المستقبل الثّقافي والحضاري وأيضا المستقبل الاقتصادي والاجتماعي والسّياسي، فكلّ مظاهر التقدّم تخرج من فضاء المدرسة ومن بين يديّ المدرّس، وفي غياب المدرسة والمدرّس يسود الخراب، الخراب الذي تريد القوى الرّجعيّة والظّلاميّة دفع البلاد إليه. فمتى يعي شعبنا أنّ المعركة ضدّ تهميش وتقزيم وإهانة المدرسة والمدرّسين هي معركته ويتوقّف عليها جزء هامّ من مصيره؟ ومتى يقف المجتمع بكلّ فعاليّاته وقفة حاسمة ضدّ العنف والغشّ من أجل حماية مصداقيّة المؤسّسة التربوية والقيام الإصلاح الجذري الذي لا معنى للثورة دونه؟