بقلم علي الجلولي
مازال موضوع النّأي بالمساجد عن التّوظيف السّياسي مطروحا على جدول أعمال هذه الفترة الأخيرة من المرحلة الانتقالية، فرغم تعهّد حكومة جمعة يوم تشكيلها بتطبيق هذا البند ضمن تعهّدها بتطبيق خارطة الطريق التي تشكّلت على أساسها، فإنّ التّقدّم في ذلك ظلّ محدودا للغاية وطفيفا، ومازالت المساجد والجوامع مرتعا للتيارات السياسية التي تستعمل الدّين وتوظّفه، كلّ التيارات دون استثناء بما فيها حركة النهضة، فضلا عن حزب التحرير والمجموعات المتشدّدة الأخرى بما فيها العصابات العنفية والإرهابية التي بسطت سيادتها في بعض الأحياء عن طريق تحكّمها في مساجدها مثلما هو الحال في دوّار هيشر غرب العاصمة التي أُعلنت “إمارة إسلامية” وهو ما شرعوا في تنفيذه أيضا في عديد الأحياء والمدن الصّغرى مثل حيّ التّضامن وسجنان.
لقد تعهّدت حكومة جمعة بتحقيق “سيطرة الدّولة” على المساجد واستعادتها من سلطة التيّارات السّياسية في غضون ثلاثة أشهر، أي في أجل أقصاه نهاية شهر أفريل الجاري، لكنّ وزارة الشّؤون الدّينيّة أكّدت في منتصف شهر ماي أنها تجد صعوبة جدّيّة ولم تسترجع من 150 مسجدا خارجا عن سلطتها إلاّ 30 فقط، والمساجد الخارجة عن السيطرة حسب تصريح الوزارة هي كما يلي: 31 مسجدا في تونس الكبرى، 16 في بنزرت، 15 في سوسة، 12 في نابل، 11 في المهدية، 10 في سيدي بوزيد، 9 في صفاقس والقيروان، 8 في قبلي، وفي بقية الولايات بين 1 و5 باستثناء توزر وتطاوين التي تم استرجاع كامل المساجد بها حسب وزارة الشؤون الدينية. على أنّ هذه الارقام تبقى في حاجة إلى التدقيق.
إذ يعتبر العديد أنّ الوزارة لا تحتسب من المساجد المنفلتة إلاّ ما كانت تحت سطوة “أنصار الشريعة” أمّا بقية القوى ومنها النهضة فهذه المساجد لا تُحتسب، ولا غرابة في الأمر فوزارة الإشراف هي ذاتها مخترقة عموديا وأفقيا من حركة النهضة زمن الوزير الخادمي، وكذلك زمن الوزير الحالي.
ماذا يعني توظيف المساجد؟
تعتبر الحركات السياسية التي توظّف الدّين المسجد حلقة أساسيّة في انطلاقتها واتّساعها ودعايتها وتحريضها، فالمسجد هو ذاك الفضاء الذي يتجمّع فيه عدد كبير من الناس في نفس الوقت، لكنّ خلافا لأيّ مكان عام آخر، فالمسجد فضاء للتعبّد يأتيه الناس وهم في حالة ذهنية ونفسية ومعنوية محدّدة تتّسم بالقابلية للتّأثّر بالخطاب الدّيني دون التفطّن في الكثير من الحالات وأحيانا أغلبها إلى أنّ هذا الخطاب قد يكون مغاليا ومتعصّبا وانغلاقيّا، كما قد يكون خطاب تكفير ودعوة للعنف والإرهاب (المسمّى جهادا)، حينها تتحوّل العلاقة بين المتعبّد والمؤسّسة التّعبّدية إلى علاقة جديدة قائمة على الاستقطاب والتأطير وتحويل وجهة المتعبّد إلى فضاء جديد هو فضاء الإسلام السياسي بشتى تشكيلاته.
وهذا الخطاب يعتمد أخبث الأساليب القائمة على الدمغجة والمغالطة وملامسة وتر العواطف بما يحقّق هدف غسل الدّماغ، ويلعب تدنّي المستوى الفكري فضلا عن الأوضاع المادّيّة الصّعبة للشباب العاطل والمفقّر الذي يُحشى دماغه بشعارات جديدة حول “استعادة أمجاد الأمّة و”العودة للسّلف الصالح” التي تأخذ في البداية شكلا فلكلوريا يبدأ باللّباس (القميص واللّحية) بداعي البساطة التي يلعب الفقر دورا هامّا في التّشريع لها وتكريسها، وينتهي بالتزام حركي تحت مسمّى”الدّفاع عن شرف الأمّة” و”مقاومة الطّاغوت” الذي يقتضي حتى الاستعداد للموت تحت اسم الشهادة، وأرض الميدان هي سوريا أو ليبيا أو جبل الشعانبي، والهدف إمّا نظام بشار أو طاغوت تونس من الأمنيين والعسكريين و”الملحدين والكفّار” وهم الجميع باستثناء لابسي القميص.
إنّ المساجد اليوم هي فضاء لخطاب ديني تكفيري يسمّي الأشخاص/ الأهداف بأسمائهم والجميع يذكر الدّعوة لتصفية الشهيد شكري بلعيد ونجيب الشابي من أحد المنابر، كما أنّ الجميع لا ينسى “الفتاوي” العديدة ضدّ حسين العباسي وقيادة اتّحاد الشغل، وضدّ حمة الهمامي وعديد السياسيين والمفكّرين والإعلاميين وآخرهم الصحفي مختار الخلفاوي الذي كفّره رضا بلحاج القيادي في حزب التحرير، وخطاب التكفير لا يطال هؤلاء فقط بل يطال كلّ المجتمع نساء ورجالا بحكم “تخلّيهم عن شرع الله” وبذلك تتحوّل المؤسّسة المسجديّة من فضاء لتفسير الدّين وتعليمه إلى فضاء لنفث السّموم التي وصلت حدّ تكديس الأسلحة في أركانها، وتحويلها إلى “مقرّ خاص” في اللّيل والنّهار يُفتكّ منبرها ومفاتيحها ويُفرض فيها نظام خاصّ أقرب إلى العسكرة، والويل لمن يتجرّأ على محاولة المسّ من هذه السيطرة حتّى من الفرق القريبة، وقد كانت مساجد المسلمين مسرحا لعنف مريع بين أنصار فرقتين آخرها جرى بأحد مساجد الكاف منذ أيّام، وفي حالات عديدة انتصب منبران في مسجد واحد أمام دهشة واندهاش المصلّين.
ولا يقتصر الأمر على مريدي “أنصار الشريعة” المعروفين بتشدّدهم ودعوتهم الصّريحة للإرهاب، بل يشمل توظيف المساجد كلّ التيّارات الأخرى التي توظّف الدّين مثل حزب التّحرير الذي يتحكّم في عدد من المساجد تُؤمّ فيها الصّلاة تحت أعلامهم الحزبيّة، كما أنّ قادته ينظّمون المحاضرات والمسامرات في المساجد والجوامع أمام أنظار الحكومة ووزارة الإشراف، وتُعلّق الدّعوات لذلك على الجدران وتنشر على الشبكة العنكبوتية، وهو ذات الأمر بالنسبة لحركة النهضة التي أمّ رئيسها عديد المرّات الصّلاة في عديد الجهات، فضلا عن خطب قادتها وأعضائها وأنصارها على عديد المنابر والتي برزت بمناسبة تصاعد النّضال ضدّ حكومتها، إذ ركّزت خطب بعض المساجد على ضرورة مساندة الحكومة المسلمة في وجه “الكفار” منظمي الاعتصامات والإضرابات والمسيرات، كما أنّ العديد مازال يتذكّر الدّور المحوري الذي لعبته بعض المساجد في الدّعاية والتّحشيد لصالح حركة النهضة في انتخابات 23 أكتوبر وذلك بدعوة النّاس للتّصويت المكثّف “للّي يعرف ربّي” وهو دور من المفترض أن يتكثّف في المدّة القادمة باقتراب المواعيد الانتخابية.
كما لا ينسى الجميع دعوة رموز الظّلام المشارقة إلى بلادنا وفتح المساجد لهم لنفث سمومهم وفتاوي التخلّف حول ختان الفتيات وبول البعير…
من أجل الإيقاف الفوري لهذا التوظيف
إنّ توظيف المساجد هو تلاعب رخيص بمشاعر الناس، واستغلال غير مشروع وغير شريف للسلطة الدينية للتحكّم في عقول البسطاء وتوجيه سلوكهم السياسي، وهو سلوك قار في الممارسة السياسية للحركات وأنظمة الحكم الرّجعية التي توظّف كلّ شيء من أجل إخضاع الشّعوب والطّبقات الفقيرة وفي مقدّمة ذلك توظيف المقدّس الدّيني لما له من حضور في الوعي الفردي والجماعي. ويتّسع نطاق توظيف الدّين في البلدان العربية الإسلامية ليس من قبل الحركات السياسية الظّلاميّة فقط بل أيضا من قبل الأنظمة التي تريد تمرير استبدادها وفسادها وتبعيّتها بقناع ديني/ أخلاقي وهو ما كان يفعله نظام بن علي الذي سخّر المؤسّسات الدّينية لخدمة نظام حكمه، يُدعى له فيها ويُوظّف المسجد لتأطير المجتمع ومراقبته وخنقه.
إنّ بلادنا مُقدّمة في المدّة القليلة القادمة على مواعيد انتخابية هامّة، ومن أجل ضمان تكافؤ الفرص للمتراهنين وجب ضرورة إخراج المقدّس من اللّعبة، وقد نصّت خارطة الطّريق على هذا الأمر، والتقدّم في تحقيق ذلك مازال دون المأمول، وطبعا الحكومة تتحمّل كامل المسؤولية في ذلك، إذ رغم تشكيل لجنة رباعيّة من وزارة الشؤون الدينية والداخلية والعدل والمكلّف بنزاعات الدولة فإنّ أدائها ظلّ محدودا بما يطرح نقاط استفهام جدّيّة حول حقيقة قدرتها على ضمان هذا المطلب الأساسي في توفير المناخ والبيئة الانتخابية السليمة والعادلة، وهذا يفرض على القوى السياسية والمدنية مضاعفة الضغط لأجل إيقاف مهزلة وضع اليد على المساجد وتحويلها إلى حوزات خاصة في إطار مشاريع رجعية تريد تدمير النسيج المجتمعي التونسي.
فليكن الجميع وفي مقدّمتهم المصلين في معركة تحرير المساجد حتى ترجع إلى دورها الأصلي بعيدة عن التوظيف السياسي والحزبي مثلها مثل المؤسسات التربوية والإدارة كما ينصّ على ذلك دستور البلاد.