رغم مرور عشرين سنة عن الحرب الأهلية في روندا والتي أدارتها القوى الامبريالية تحت مسمّيات الاختلافات العرقية وسوّقتها على أنّها صراعات بين اثنيات الهوتو والتوتسي، ما تزال مخلّفاتها متواصلة لا الاجتماعية والنفسية فحسب، بل القضائية كذلك، إذ تفتتح في محاكم باريس خلال هذا الأسبوع محاكمة أحد المتّهمين بالضلوع في تنظيم تلك المجازر الوحشية والتي راح ضحيّتها ما يزيد عن 800 ألف مواطن رواندي أي أكثر من عُشُر سكاّن البلاد.
والمتّهم في قضية الحال يُدعى باسكال سينبيكنغوا، وهو ضابط سابق بالجيش الروندي يبلغ حاليا من العمر 54 سنة، وتُوجّه إليه تهم التحريض على القتل والمساعدة على تنظيم مجازر جماعية ما بين شهري أفريل وجويلية 1994 وذلك بتوفير الأسلحة للميليشيات الناشطة آنذاك بالعاصمة والتي كانت تقيم الحواجز لفرز السكّان بحثا عن التوتسي وقتلهم بطُرق بشعة ووحشية. وقد كان هذا العسكري من المقرّبين إلى دوائر النظام وخاصّة إلى الرئيس الروندي الذي اغتيل في حادث الطائرة والذي أدّى اغتياله إلى تلك الموجة من المجازر. وقد عاش منذ هروبه متخفّيا تحت هوية مزيّفة في جزيرة مايوت حتّى سنة 2008 إلى أن ألقي عليه القبض وبعد التحقيق معه وُجّهت إليه تهم “المساعدة على القتل وارتكاب مجازرجماعية وغيرها من الاعتداءات اللاإنسانية”
والمحاكمة الحالية هي الأولى من نوعها التي تٌقام أمام المحاكم الفرنسية. وقد سبق لدول أخرى أن تولّت محاكمة متّهمين في نفس هذه القضية بينما امتنعت فرنسا عن ذلك حتّى الآن. وقد كانت الأمم المتّحدة أقامت محكمة جنايات خاصة بروندا منذ سنة 1994 وهي منتصبة إلى اليوم بمدينة أروها التنزانية وهي تستعدّ لغلق هذا الملف بعد أن أصدرت مئات الأحكام بالسجن على المتهمين الذين مرّوا أمامها. بينما مرّ ما يزيد عن المليوني شخص أمام المحاكم الشعبية التي أقامتها الأنظمة المتعاقبة في رواندا نفسها. وقد نشطت محاكم بلجيكية في نفس القضية كلّما أمكن لها وضع يدها على بعض المتهّمين الذين حاولوا الاختفاء عن الأنظار ورحلوا بعيدا عن مسرح الوقائع. فبعضهم تمّ إيقافهم في أوروبا والبعض الآخر في القارّة الأمريكية.
أمّا القضاء الفرنسي فقد انتظر طويلا للمساهمة في ملاحقة مجرمي هذه الحرب. ويُعزى ذلك حسب الملاحظين إلى الدور المشبوه الذي لعبته فرنسا في تلك الأحداث والتي لم تتدخّل بحزم لإيقافها أو الحدّ منها رغم وجود عسكريين فرنسيين على مسرح الأحداث، ممّا أدّى ببعض الجهات إلى اتّهام فرنسا بالتواطؤ مع هذا الشقّ أو ذاك خاصّة بعد قبولها على أرضها أرملة الرئيس الروندي وهي المتّهمة بالمساهمة في تنظيم ما جرى من أحداث ومنحها حقّ اللجوء السياسي. ولم يفتح بشأنها تحقيق قضائي إلاّ بعد مرور 13 سنة من إقامتها بفرنسا رغم كثرة القرائن التي تُثبت إدانتها. ولم تُنشئ فرنسا قطبا قضائيا خاصّا بملاحقات مجرمي الحرب المقيمين على أرضها إلاّ بعد مرور 18 عاما على نهاية الحرب الروندية.
ولم تكن هذه الخطوات ممكنة دون ضغط الأوساط الحقوقية الإفريقية والفرنسية والدولية التي ناضلت وتناضل ضدّ الإفلات من العقاب سواء بالنسبة إلى مجرمي الحرب – والحروب المتتالية سمة من سمات عصر الامبريالية – أو بالنسبة إلى مرتكبي التعذيب في ظلّ الأنظمة الدكتاتورية التي نصّبتها القوى الامبريالية لتحكم شعوبها بالحديد والنار لفائدة أسيادها وبالوكالة عنها.