إن تدمير القوى المنتجة/”الشعوب” هي أداة “رأس المال” للانتعاش والمحافظة على مستوى نهب أعلى، وقد رأى ماركس في هذا السياق أنه “عندما تؤمن الرأسمالية معدل ربح بمقدار 400% لن تتوانى عن تحقيق أبشع الجرائم”. لكن الرأسمالية بأعلى مراحل تطورها في بدايات القرن العشرين وما أتى لاحقاً عليها بلغت معدلات ربح فلكية فاقت تصور ماركس، حيث يؤمن بيع ورقة (100 دولار التي تكلف 4 سنت) مثلاً ربحاً مقدار 250000% للولايات المتحدة مركز الإمبريالية العالمية!
بالضرورة،علينا أن نتخيل أن مستوى الجريمة الإمبريالية يجب أن يتضاعف بشكل مهول مع تضاعف الشره للربح بعد أن لاحت إمكانيات توسيعها إلى حدود خيالية. وفي هذا السياق ليس غريباً أن نسمع في القرن العشرين عن نظريات للإبادة البشرية كالتي ابتدعها النيومالتوسية كنظرية “المليار الذهبي” والتي ابتدعها نادي روما. لقد ولد النصف الأول من القرن العشرين ظاهرة الفاشية والتي جاءت مفرزاً طبيعياً في ظل هوامش الربح الفلكية المحققة في إطار الهيمنة الإمبريالية، فالقوى الأكثر شراهة للمال أكثر شراهة للحرب والتدمير والتطهير الفاشي.
لذلك جاء تعريف ديمتروف للفاشية بأنها “العناصر الأشد رجعية لرأس المال المالي” إصابة عميقة في جوهر هذه الظاهرة التي ربطت بين أشد وأقذر أنواع العنف وبين الطغم المالية الأشد نهباً للشعوب.
تصدير الفاشية
لكن أهم مستجدات هذه الظاهرة التي كان مركزها في ألمانيا وإيطاليا إبان الحرب العالمية الثانية، هو تصديرها في سياق العولمة رأس المال من المراكز الإمبريالية باتجاه دول الأطراف بحثاً عن الربح الأعلى وتعبيراً عن درجة التمركز العالية، تم تصدير الحوامل المادية للفاشية. لقد ساد الاتجاه العام بعد الحرب العالمية الثانية بضرورة نقل الصراع بين المراكز الرأسمالية إلى أراضي دول الأطراف بدل أن يتم الصراع على أراضي دول المركز، هكذا تم تعزيز تصدير الفاشية إلى الدول الفقيرة كأدة لصراع الدول الغنية على أراضي الغير.
أمّن تصدير الخطر الفاشي لدول المركز العديد من المصالح، فساهم في سحق القوى المنتجة/”الشعوب” في دول الجنوب المنهوبة، كما أمن إشغال العديد من القوى المنافسة للغرب كالصين وروسيا. ولقد كانت التمظهرات الملموسة لهذه للفاشية تأخذ العديد من الأشكال، ويعتبر أبرز أشكالها “السلفية الجهادية” والتي ظهرت في مصر ثم انتقلت مباشرة إلى سورية وباكستان وأفغانستان والشيشان والصومال والعراق والسعودية واليمن والصومال والعديد من دول إفريقيا وشرق آسيا والبلقان على مدار العقود الأخيرة.
التجلي الجديد/نيوفاشية
ولذلك لم يكن خروج الولايات المتحدة على العالم بشعارها “الحرب على الإرهاب”، الذي هدف فعلاً إلى تحقيق نموذج “الفوضى الخلاقة” في مراكز هامة من الدول المفصلية في الصراع الدولي، إلا تجلياً لاستخدام أداة الفاشية في سحق شعوب المنطقة.
كانت وظيفة هذا النموذج ولازالت هو تأمين حل لأزمة رأس المال العالمي، حيث إن تدمير القوى المنتجة في هذه الأماكن يؤمن هيمنة دول المراكز الرأسمالية على دول الأطراف لأجل نهبها، ولأجل إعادة إعمارها محققة بذلك ربحاً أعلى مما كانت تحققه في المراكز، مما يؤمن استمرار دوافع ووجود قوى رأس المال. لقد كان التوقيت الأمريكي الاستراتيجي لهذه الحرب ينطلق من استشراف أزمة رأس المال العالمي في عام 2008 والتي اجتاحت كبرى المراكز المالية والاقتصادية وهي المستمرة بتجلياتها حتى اللحظة .
ولعبت دول الأطراف الأشد ارتباطاً بالمراكز الإمبريالية دوراً هاماً في تصدير الفاشية أكثر من دورها في تصنيع هذه الظاهرة، فالسعودية مثلاً لعبت دوراً رئيسياً يعد أشبه بـ”موانئ إعادة التصدير” التي أنتجتها ظاهرة العولمة. فتقوم السعودية بتغليف “المنتج” وتحميله العقيدة التكفيرية/الأصولية اللازمة لاتنشاره في مجتمعات الفقر، كما تقوم بتزويده بالمال والحامل البشري، كونها محطة إعادة التصدير للدول التي ينبغي ضربها من قبل المراكز الإمبريالية. ولذلك ينبغي هنا لحظ الدور السعودي/الخليجي ليس كمنتج للظاهرة بمقدار ما هو محطة ضرورية لانتقال هذا المرض بصيغة محلية، فإنتاج الفاشية هي مهمة المراكز الإمبريالية المعروفة.
خلط مفاهيم عفوي أم ممنهج!!
هنا ينبغي الوقوف جدياً في إطار معالجة هذا الخطر عند إشكالية الخلط العفوي أو المقصود بين ثلاث مصطلحات وهي “الفاشية” و”الإرهاب” و”الوهابية” والتي يقع فيها الخطاب الرسمي السوري مثلاً في كثير من الأحيان. إن قصر الحديث عن الوهابية كمرادف للإرهاب يعني قصر الظاهرة وعلاجها على الحوامل الفكرية المرتبطة ببقعة جغرافية محددة وهي السعودية ومحيطها بأحسن الأحوال كما يراها الإعلام الرسمي السوري.
ليست الوهايبة إلا إحدى العناصر الفكرية التي تغلف الظاهرة الفاشية في منطقتنا، والملاحظ هنا، أن ليس كل الوهابية تدعو إلى التكفير والقتل على أساس الكفر، ولا أقول ذلك دفاعاً عن الوهابية، ولكن لتوضيح التحليل السطحي لهذه الظاهرة عند البعض. كما أن السلفية الجهادية خرجت على يد العديد من المنظرين بعقيدة تكفيرية، حيث كفرت الوهابية وكل تنظيمات الإخوان المسملين مثلاً. لقد أفرزت الوهابية أيضاً عقيدة دينية “مهادنة” نبذت “العنف” تمثلاً لرغبة الحكم السعودي، حيث نبذت “العنف” تماشياً مع الفرائض الأمريكية إبان حربها على “الإرهاب” ورفع الغطاء عن تننظيم القاعدة. وبدوره كفر تنظيم القاعدة حكام آل سعود!!.
إن قصر الظاهرة على الوهابية لا يلحظ أيضاً الدور الكبير الذي لعبته حركة “الإخوان المسلمون” في تغليف ظاهرة الفاشية، حيث كان للقيادي في حركة الإخوان المسلمين، سيد قطب، دوراً هاماً في إنتاج عقيدة حركة السلفية الجهادية التي ضربت مصر وسورية في ثمانينيات القرن الماضي، والتي يراها قليل من الإخوان خروجاً عقائدياً ومنهجياً ومسلكياً عن عقيدة الإخوان “الإصلاحية/الدعوية”. لقد كان أبرز رواد هذا الفكر الدكتور “عبد الله عزام” مثلاً، والذي انتقل من “تنظيم الشيوخ” داخل حركة فتح الفلسطينية، إلى العمل العسكري في أفغانستان حيث يعتبره الكثيرون الأب الروحي لتنظيم القاعدة. وبالتالي يتم تبرئة الحركة التي أدمت مصر وسورية بالعنف في العقود الماضية دون أن تعلن الحركة أية مراجعة جدية لنهج العنف في هذين البلدين، بل لازال العنف أداةً رئيسية مستخدمة من قبلها حالياً في الصراع الدائر في سورية ومصر .
الإرهاب على الطريقة الأمريكية!
لا يمايز العديد من المتحدثين اليوم بين مفهوم “الإرهاب” الذي قامت عليه حروب الولايات المتحدة في منطقتنا، ومفهوم الفاشية، فيبرز مفهوم الإرهاب متطابقاً مع الوهابية وبعيداُ عن الفاشية في أغلب الأحيان. وبهذا لا يضع المتحدثون مسافة توضح التخوم بين “الارهاب” وفق المفهوم الأمريكي والذي يجعل كل دعاة الجهاد إرهابيون بما فيهم دعات الجهاد ضد الكيان الصهوني! وبين الإرهاب كظاهرة فاشية مركزها الولايات المتحدة وما الدور السعودي إلا كدور محطة الوقود التي تغذي الظاهرة بالحامل الإيديولوجي والبشري فقط وإن هذا الحامل يمكن أن يتغير في أي لحظة.
إن الخطير في هذا الفهم هو الحديث عن الدور السعودي كدور أصيل ووحيد معزول عن المركز الإمبريالي، وهذا ما يعزز الرؤية الأمريكية للصراع في المنطقة ليغدو صراعاً “سعودياً بوجه مقابلاته من دول إقليمية تحمل إيديولوجيا مناقضة” كإيران مثلاً، وهو ما يدخل بكل تأكيد في إطار مشروع الفوضى الخلاقة التي رسمها الأمريكي يوماً ما.
يؤمن البحث في عمق الظاهرة الفاشية، الاقتصادي- الاجتماعي، بوصلة حقيقة للتصدي لها. وعلى ذلك لن يبدو الأمريكي/الغربي طرفاً بريئاً “عانى منذ وقت قريب من هذه الظاهرة وبالتالي يمكن اللعب على مشاعره لاستمالته” بل سيبدو طرفاً مداناً بأجزاء واسعة منه، كما سيستدعي ذلك بعداً اقتصادياً سياسياً ضرورياً للتصدي لهذه الظاهرة وليس إصلاحاً فكرياً بين التطرف والاعتدال.
جريدة قاسيون