موريتانيا بلد متعدد الهوية ومتنوع التركيب السكاني، ما يجعل أسئلة مثل الوحدة الوطنية وقضايا التمييز والاضطهاد تطرح بشدة. وقد وقعت احتكاكات بين بعض المكونات مثلما حدث في الماضي بين زنوجه وعربه. وتشهد موريتانيا هذه الفترة حراكاً اجتماعياً فئوياً ملحوظاً ترتفع وتيرته باطراد، ويطرح مطالب من قبيل الدعوة الى تبني سياسات التمييز الإيجابي لمصلحة بعض الشرائح المهمشة في المجتمع، لدمجها في عجلة الإنتاج وانتشالها من الفقر والجهل والاضطهاد والتوقف عن نبذ بعض الفئات الأخرى والدعوة إلى احترامها واحترام تاريخها وأعمالها، وإنصافها.
الصناع: صرخة ضد الاحتقار
بدأت شريحة «المعلمين» (الحدادين أو الصناع التقليديين) منذ فترة في التحرك ضد ما تعتبره جريمة تاريخية بحقها، حيث يقول نشطاء هذه الشريحة أنها تتعرض للازدراء والرفض من قبل بقية مكونات الشعب الموريتاني. فهناك اعتقاد شائع بأن أفرادها مصدر شؤم ويجلبون البلاء. على الرغم من أن افرادها يعتقدون أنهم أكثر شرائح الشعب الموريتاني فائدة على الدولة وعلى المجتمع. فهم ركيزة الصناعة في البلد، كانوا يصنعون الأسلحة للدفاع عن الأرض، وكل ما يحتاجه الناس من آلات تسهل عليهم الحياة، كما أنهم معروفون بالإبداع في شتى المجالات ويرجع نشطاء هذه الشريحة حالة الازدراء التي يعانون منها إلى تشويه تاريخهم من قبل بعض المؤرخين ، حيث قاموا باختلاق القصص الوهمية عن تاريخها وطبائع أبنائها.
وكذلك إلى قيام بعض رجال الدين الموريتانيين بالتشكيك في إسلام أبناء هذه الشريحة، وإصدار فتاوى تحرم الصلاة وراءهم، ما اشاع نظرة دونية عنهم، ترفض الاختلاط بالزواج معهم على سبيل المثال. وهذه ظاهرة متكررة في المجتمعات القبلية/ البدوية الرعوية، وحتى الزراعية، التي تعتبر الحرف أقل شأنا من النشاط العام السائد، وبؤرة لقيم وعلاقات مغايرة، يعتبرونها «وضيعة»، مما تشير إليه الدراسات الانتروبولوجية في أكثر من مكان.
لكن نشطاء هذه الشريحة يشكون أيضا من تهميش الدولة لهم، ومن قلة حظهم في الوظائف والمناصب السامية، حيث يقولون أن موريتانيا لم يعين في تاريخها سوى وزير واحد من أبنائهم. ويقولون كذلك ان الدولة تتجاهل حرفهم ولا تقدر إسهامهم في الاقتصاد الموريتاني. وهم يطالبون بغربلة النصوص التاريخية وكتابتها من جديد، وإدانة كل العمليات التي أسست لنبذ هذه الشريحة وألبست ذلك ثوبا دينيا. ويطالبون أيضا باعطائهم حقهم في ثروة البلاد وإشراكهم أكثر في صناعة قرارها.
«الحراطين» والمطالبة بالتمييز الإيجابي
موريتانيا أحد آخر معاقل الرق (بشكله القديم على الاقل!) في العالم. لكن ليست هي الأزمة فحسب. فحتى من تحرر من الرق فهو ما زال يعاني من مخلفاته ويقاسي ويلات الفقر والجهل والتهميش، وهو ما يحدث مع فئة الحراطين، أي العبيد السابقين.
وهذا ما جعل مجموعة من أطر هذه الفئة يطلقون في آذار/مارس 2013 ميثاقا من أجل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطين ضمن موريتانيا موحدة، عادلة ومتصالحة مع نفسها. وهم من أجل ذلك يطالبون في الميثاق بالتمييز الإيجابي لصالحهم تعويضا وإنصافا. وقد قدموا في هذه الوثيقة أرقاماً عن وضعهم المأساوي:- أكثر من 80 في المئة من أصل 1.400.000 من الموريتانيين تحت خط الفقر ينتمون لفئة الحراطين،- أكثر من 85 في المئة من أصل 1.500.000 أمي في موريتانيا هم حراطين، – ما يناهز 90 في المئة من المزارعين الصغار الذين لا يتوفرون على أرض نتيجة المنْح التقليدي أو الاستغلال الإقطاعي والاسترقاقي لها، هم حراطين،- اقل من 2 في المئة من الموظفين السامين في القطاعين العمومي وشبه العمومي حراطين،- كان من أبناء الحراطين ما متوسطه وزيران في الحكومات الموريتانية المتعاقبة خلال آخر 30 سنة والتي كانت تضم 40 وزيرا.
والحصيلة 20 وزيرا من أصل 600 وزير منذ 1957 و حتى 2012،- اكثر من 90 في المئة من حملة الشهادات العليا المنتمين إلى شريحة الحراطين، والمترشحين للمسابقات الوطنية، يتم إقصاؤهم في المراحل النهائية عن طريق المقابلات الشفهية،- اقل من 40 ضابط سام من أصل ما يزيد على 500 ضابط هم من الحراطين، وبالأخص في الحرس الوطني، – لم يوجد غير حرطاني واحد ـ وهو طبيب بالمناسبة ـ أدرج على لائحة التقدم لرتبة جنرال في سنة 2013 ، من ضمن 19 جنــرال جرت ترقيتهم خلال العام المنمن خلال هذه الوثيقة والحراك الذي سبقها والمطالب المتلاحقة، نكتشف أن نضال العبيد والعبيد السابقين لم يعد فقط ضد العبودية بل من أجل إنصاف هذه الفئة ودمجها في الحياة الاقتصادية والإنتاجية.
المطالب الفئويةبين القبول والرفض
ظهور المطالب الفئوية بشكل قوي على الساحة الموريتانية جعل البعض يطرح الكثير من الأسئلة عن جدواها، وعن تماسك مكونات الشعب ومستقبل الوحدة الوطنية. فيعتقد البعض أن هذه الحالة لن تزيد الشعب الموريتاني إلا انقساما، إذ المطالبات الفئوية قد تذكي النعرات، وتفتح جراح الماضي، وتوقظ شرائح أخرى ذات مطالب فئوية. ويرون أن مشروع الدولة يحتاج إلى تبني خطاب جامع وحراك شامل، وأن النضال الفئوي خطير جدا على مستقبل الشعب. بالمقابل يعتقد آخرون أن هذه الشرائح تضررت كثيراً عبر تاريخ موريتانيا، ومازالت تعاني، وأن إنصافها هو الباب الأول لأي وحدة وطنية في موريتانيا، ومطالبها مشروعة وملحة ولا تقبل التأخير، وأن معالجتها ليست مستحيلة بل تتطلب إرادة سياسية صادقة، وأن هذه الحراك هو دليل من بين سواه على تشكل الوعي بالحقوق وثقافة رفض الظلم.
* كاتب ومدون من موريتانيا