بقلم: الأستاذ محمود مطير
بعد ثلاث سنوات من انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 عرفت فيها البلاد تجاذبات سياسية حادة وصلت حد الاغتيال السياسي ووصل الاقتصاد التونسي إلى شبه انهيار إذ تفاقمت البطالة وتطوّر العجز التجاري والمالي وغاب الاستثمار دارت أوّل انتخابات تشريعية لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب طبق الدستور الجديد المصادق عليه بعد انتفاضة/ثورة 2010/2011.
لقد أسفرت هذه الانتخابات عن تركيبة لمجلس نواب الشعب عكس تركيبة المجلس الوطني التأسيسي (2011-2014) الذي سيطر عليه إسلاميو النهضة. ولكن رغم ذلك فإنّ هذه التركيبة الجديدة لا تعكس حسب رأينا التركيبة الاجتماعية للمجتمع التونسي.
إنّ حركة نداء تونس من جهة وحركة النهضة من جهة أخرى اللتان فازتا بأكبر عدد من المقاعد بالمجلس الجديد (85 مقعدا للنداء و69 مقعدا للنهضة أي ما جملته 154 مقعدا وهو ما يساوي 70 ./. من مجموع مقاعد المجلس) تمثلان موضوعيا (انطلاقا من برنامجهما الانتخابي) الطبقة الرأسمالية.
إنّ حركة نداء تونس وحركة النهضة تطرحان حلولا ليبرالية لتسيير اقتصاد البلاد وهي حلول تتناقض مع مصالح الطبقات الشعبية.
وإذا أضفنا إلى المقاعد التي تحصّل عليها الحزبان المذكورأنّ المقاعد التي تحصّل عليها حزبا آفاق تونس (8 مقاعد) والوطني الحر(16 مقعد) اللذان يطرحان برنامجين ليبراليين لا يختلفان عن برنامجي النداء والنهضة يصبح مجموع المقاعد التي تحصلت عليها الأحزاب الأربعة تساوي 178 مقعدا أي ما يساوي 80 ./. أو يزيد من مجموع مقاعد المجلس.
لذا يمكن القول أنّ المجلس الجديد من المنظور الاقتصادي والاجتماعي مجلس يميني قاعدته أصحاب الأعمال والرأس مال الباحث عن سلطة سياسية داعمة لسلطة المال وذلك بالرغم من وجود بعض الاختلافات غير الجوهرية بين مكوّنات الأحزاب الأربعة.
إنّ الاطّلاع على برامج الأحزاب الأربعة المذكورة يبيّن أنّ هذه الأحزاب لا مشكلة لها مع التداين الخارجي وإغراق تونس في الديون الخارجية وأنّ الأحزاب الأربعة تعتبر أنه يجب على الدولة أن تتخلّى عن دورها الاقتصادي لفائدة أصحاب رأس المال وأنّ الأحزاب الأربعة تساند تخلّي الدولة عن دعم الطبقات الشعبية عبر التخلّي عن صندوق التعويض وأنّ الأحزاب الأربعة تطرح مراجعة التشريع المتعلق بالحماية الاجتماعية والتقاعد وتطرح التمديد في سن التقاعد والزيادة في مساهمة الأجراء في تمويل الصناديق الاجتماعية المنهوبة عوض معالجة حقيقية لأسباب الداء الذي ينخر هذه الصناديق.
في ظلّ هذا المشهد المظلم الذي تسطّره هذه الأحزاب الأربعة التي سيكون لها بشكل أو بآخر دور في تحديد مستقبل البلاد ووضع الطبقة الشغيلة والفئات الشعبية لمدة الخمس سنوات القادمة برزت الجبهة الشعبية التي تمثل – نظريا على الأقل- الطبقة الشغيلة والفئات الشعبية لتحتل 7 أو 8 ./. من مجمل مقاعد مجلس نواب الشعب (15 مقعدا).
إنّ الجبهة الشعبية التي تمثل النقيض للأحزاب الأربعة المذكورة حقّقت انتصارا هامّا لا محالة إذا أخذنا بعين الاعتبار الظرف الدولي والاقليمي الداعم لليمين الديني والليبرالي (بكل الطرق والوسائل من مال وإعلام…) والمعادي لليسار فكرا وممارسة وإذا أخذنا بعين الاعتبار درجة وعي الشعب التونسي الذي عاش التصحر السياسي طيلة عقود وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضا واقع تشرذم اليسار في تونس على مدى عقود والذي تمثل الجبهة الشعبية أول محاولة ناجحة لتوحيده.
إنّ الجبهة الشعبية لوحدها تمثل اليسار في المجلس. إنها نجم اليسار السّاطع في هذا المجلس اليميني.
ولكن انتصار الجبهة الشعبية وبهاته الصفة يطرح عليها مهام جديدة هامة وشاقة. فهي اليوم مطالبة بأن تكون صوت الثوّار الذين أحبطتهم نتائج انتخابات أكتوبر 2013 وأصابهم إحساس بأنّ الثورة قد أُجهضت.
إنّ الجبهة تحمل اسم “الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة” لذا فإنّ انتصارها يطرح عليها تحقيق أهداف الثورة في التشغيل والحرية والكرامة الوطنية.
إنّ الجبهة الشعبية مطالبة بالدفاع عن حقوق الطبقات والفئات الشعبية المقهورة والمفقّرة والمغتصبة حقوقها لأنّ الجبهة اليوم وبكل بساطة هي صوتهم الوحيد في المجلس.
إنّ الجبهة الشعبية مطالبة بالدفاع عن حق الجهات المحرومة في التنمية الشاملة وتوفير كلّ مقومات هذه التنمية من بنية تحتية وتعليم وتكوين وتشغيل وصحة لأنّ الجبهة تمارس السياسة دون حسابات ضيّقة ودون انتهازية ومصلحية ذاتية مقيتة.
لقد عبّرت الجبهة الشعبية ضمن برنامجها الانتخابي عن توجّهها الصادق والمبدئي لخدمة الطبقات والفئات الشعبية إذ اعتبرت أنّ الدولة هي القاطرة التي تقود الاستثمار وتوفّر الشغل في هذه المرحلة خاصة، وعبّرت عن تمسّكها بعدم إغراق البلاد في الديون وعن ضرورة حماية القدرة الشرائية للطبقات الشعبية وعن ضرورة دفع قاطرة التنمية بالجهات الداخلية.
لكن إلى أي مدى يمكن لهذا البرنامج أن يرى النور؟ كيف ستتصرف الجبهة الشعبية اتجاه يمين متحفز ومتعطش للسلطة؟ هل هي قادرة على مواجهة هذا اليمين بمفردها؟ هذا ما سيبيّنه المستقبل القريب فلننتظر.