بقلم نايف سلوم
لم يصنع لينين الثورة الروسية، بالمقابل فقد صنع الحزب البلشفي. إن التشديد على الضرورة المطلقة للتنظيم موجودة على امتداد عمل لينين ومجرى حياته. ففي أثناء ثورة 1905 ، وحين تحركت الجماهير عفوياً ، دون عون من أي حزب، كرر لينين القول : ” إذا لم يكن ثمة تنظيم للجماهير، فالبروليتاريا ليست شيئاً ” [ لينين الأعمال ج 11]. بكلام آخر :إذا لم تنظم البروليتاريا هيمنتها عبر إنشاء برنامجها الديمقراطي، وعبر تنظيم تحالفاتها مع الطبقات الشعبية الأخرى ، فهي أي البروليتاريا ليست شيئاً.
إنه لأمر لا يقبل الإنكار أن الحركة الاشتراكية والثورية الروسية عانت حتى بداية القرن العشرين من الغياب الكامل للتنظيم ويعقب لينين على هذا الوضع بالقول : “إن الملمح الأساسي لحركتنا .. إنما هو تشتتها ، طابعها الهاوي إذا صح التعبير : تتشكل الحلقات المحلية وتعمل تقريباً بالاستقلال عن الحلقات الموجودة في محلات أخرى، وحتى بالاستقلال عن الحلقات التي كانت تعمل في الوقت ذاته في المحلات ذاتها، بحيث لا يقوم أي تقليد أو استمرارية . وتعكس المنشورات المحلية هذا التشتت بصورة كاملة ” [الأعمال ج 4]. كانت نتيجة انعدام التنظيم مزدوجة: معاناة الحركة من إقليمية قصوى ، لا بل من “نزعة ” محلية صرف. وفي نقد روزا لوكسمبورغ للمركزية اللينينية كانت تعترف بأن “المشكلة التي كان على الاشتراكية الديمقراطية الروسية أن تسويها إنما كانت تجاوز نموذج للتنظيم قائم على مجموعات وحلقات محلية ، ومتميز باستقلال كل من المجموعات وتشتتها ” .
كان الوضع كالتالي : استقلال ذاتي يصل إلى حدود التذرير ، ونزعة هواية تجعل من المجموعات الاشتراكية فريسة سهلة للشرطة . هاتان هما العلتان اللتان سوف تكافحهما مبادئ التنظيم الحزبي التي وضعها لينين وأوضحها تدريجياً . إن مبادئ التنظيم هذه ، المحددة أولاً في مقالات وكراسات لا تحصى ، اتخذت شكلاً بالتدريج، هذه الولادة تاريخية ، بمعنى أن منطقها مكتوب في التاريخ ومرتبط به بصورة وثيقة..
حين نفي لينين إلى سيبيريا ، كان قد وجه إلى رفاقه في أوربا نداءً عاجلاً : “علينا أن نضع على عاتقنا كهدف فوري إصدار صحيفة للحزب تظهر بانتظام وتكون وثيقة الارتباط بكل المجموعات المحلية ” [الأعمال ج 4] . يشرح لينين في الإيسكرا (الشرارة) الشروط التي يتوجب توفرها في المنظمة الحزبية لكي تكتسب الفعالية. ويشير بالقول : “لكن الصحيفة لا تقصر مع ذلك دورها على نشر الأفكار ، والتربية السياسية وتجنيد حلفاء سياسيين ، ليست [الجريدة ] دعاوياً جماعياً ومحرضاً جماعياً فقط ، إنها كذلك منظم جماعي ” بكلام آخر ، ليست المنظمة الحزبية مثقف جمعي فحسب، بل هي منظم جماعي أيضاً. بقول ثالث: على المنظمة السياسية أن تكون أداة هيمنة للدعاية الحزبية والتثقيف النظري والتعبئة الأيديولوجية من جهة ، وأداة سيطرة للتنظيم من جهة ثانية . التنظيم الذي يشكل بذرة دولة من طراز جديد.
ففي أعمدة تلك المجلة التي كانت تكتب فيها الوجوه الكبرى للماركسية الروسية، سواء تعلق الأمر بـ بليخانوف أو مارتوف أو أكسلرود أو لينين أو تروتسكي ، جرى من كانون الأول ديسمبر 1900 إلى تشرين الأول أكتوبر 1903 تطوير الأفكار التي سوف تشكل بعد منهجتها وتدقيقها ، جوهر النظرية اللينينية في التنظيم .
لقد كان بليخانوف و مارتوف متفقين على اعتبار أنه ضمن الظروف السائدة في روسيا يستمد تنظيم سياسي قوته من المركزة.. لقد فرض شرط روسيا وظروفها ضرورة توحيد الحلقات المبعثرة في تنظيم ممركز . تأخذ المركزة تعريفها هنا بالتقابل مع حياة الحلقات المبعثرة والمحلية النزعة ، وليس من مقابلتها للديمقراطية داخل الحزب . كان هذا على مستوى المهمة المحددة التي واجهت الماركسيين الروس بداية القرن العشرين .
سوف يتخلى مارتوف فيما بعد عن هذه المبادئ ، وينتقد العمل الذي كان هو بنفسه باشره داخل هيئة تحرير الإسكرا ، نابذاً في كتابه “تاريخ الاشتراكية الديمقراطية الروسية ” الاتجاهات الممركزة والسلطوية للجريدة .
وبعد أخذ ملاحظة مارتوف بالاعتبار نشير إلى الوجه الآخر للمجلة ، وهو أن الإيسكرا كانت تستخدم أسلوباً سجالياً يَعِد داخل الحزب البلشفي بمستقبل زاهر. ولسوف يبرع فيه لينين بوجه خاص .
كل ما سبق لن يكون سوى تمهيد الأرض ، حيث العمل الأساسي الذي يقوم به لينين سوف يفصل ويحدد بدقة،في عشرات المقالات والخطب والأهجيات والنقاشات، القواعد الأساسية للبلشفية . ويمكن اختصار هذه القواعد بموضوعتين تعتبر الموضوعات الأخرى ملازمة لهما، وهما: حزب الطليعة البروليتارية والمركزة . وأشير مرة ثانية أن المركزة ما تزال حتى اللحظة المشار إليها مأخوذة كمقابلة للحلقات المذررة ذات الطابع المحلي والعمل الهاوي ، السريع العطب تجاه هجمات البوليس .
سوف نهتم هنا بموضوعة المركزة ، بسبب انشغال الورقة بهذه المسألة تحديداً: المركزية الديمقراطية وظروف ظهور المفهوم ، وحتى لا يتشتت البحث.
نشير بشكل أولي إلى أنه في آذار/مارس 1902 صدر في شتوتغارت كراس كبير الحجم رغم عيوبه الشكلية [أو حسب تعبير لينين نفسه: “النقص البالغ لهذا الكراس على المستوى الأدبي”] سوف يكون ذا أهمية تاريخية في التاريخ السياسي المعاصر. هذا الكتاب [كتاب ما العمل ؟] هو مكثف مفاهيم لينين التنظيمية للعمل الاشتراكي الديمقراطي في روسيا بداية القرن العشرين. وهو العرض الأكثر تماسكاً لأفكار ماركسي يسعى لخلق الأداة التي بفضلها يمكن أن يتحقق المشروع الثوري . جدير أن نلاحظ أن الموضوعات المدروسة في “ما العمل؟ ” معالجة أيضاً في أقسام أخرى من عمل لينين ، في مقالات أو كتيبات أو تقارير أو رسائل تعود إلى التاريخ نفسه تقريباً.
ويبقى أن يتلازم تفحصها مع تحليل ما العمل؟ إن فكر لينين يشكل هنا كلاً يجري إعطاء صورة ناقصة عنه إذا زعمنا فهمه في واحد فقط من مؤلفاته. هذا ما يقوله مارسيل ليبمان وما نتفق معه فيه .
المركزية والديمقراطية الداخلية
كتب لينين سنة 1897 وتحت عنوان “مهام الاشتراكية الديمقراطية الروسية” : “على الاشتراكيين الديمقراطيين الروس أن يقدموا جهداً هائلاً .. لجمع الحلقات العمالية والمجموعات الاشتراكية-الديمقراطية المشتتة عبر كل روسيا ، في حزب عمالي اشتراكي – ديمقراطي واحد ” [الأعمال ج 2] . وفي مقال لصحيفة اشتراكية سنة 1899 كتب: “إن المهمة الفورية والأكثر إلحاحاً أمام الاشتراكيين الديمقراطيين الروس هي تحقيق هذا التوحيد … والإزالة النهائية للإطار الضيق للتجزئة المحلية ” [الأعمال ج 4] .
قد يبدو للقارئ أن المركزية اللينينية ليست سوى هذا الجهد التجميعي للحلقات الروسية المبعثرة . كلا، فالأمر أكثر من ذلك ، فـ للمركزية اللينينية نتائج أعمق من ذلك. إنها تصور للعلاقات الموجودة داخل منظمة ، تصور لهذه العـلاقات بين “القمة ” و “القاعدة ” ؛ بين “المركز” و “الفروع” التي ترتبط به ، وتحديد قواعد التراتب السائدة فيها . وكل هذه العلاقات تطرح بقوة مشكل الديمقراطية في الحزب .
نقدم هنا نقداً أساسياً لتصور مارسيل ليبمان بخصوص المركزة . يسأل ليبمان : “على ماذا ترتكز في الواقع المركزية التي كان لينين بالذات ينادي بــها ، وماذا كانت تستتبع ؟ ” ويجيب ليبمان : “لقد قدم لينين ذاته الجواب، إنها “تميل إلى الانبثاق من القمة ، داعية إلى توسيع الحقوق والسلطات الكاملة للجهاز المركزي على حساب الجزء” . بتعبير آخر وبشكل أساسي ، وهي لـ مارسيل ليبمان : “إن الخيار هو التالي: البيروقراطية ضد الديمقراطية، المركزية ضد الاستقلال الذاتي ” [اللينينية ج 2 ص 32] .. لأنه إذا كانت الماركسية ، بعبارات مجردة في الغالب ، قد جعلت من المركزية مطلباً للتنظيم الاجتماعي والسياسي فلقد كان يعود إلى لينين أن يوضح ويحدد نتائجها ” [اللينينية ج 2]. يتابع ليبمان “كانت المركزية تظهر كضرورة بديهية. فمذهب ماركس ممركِز ، متعارض بوضوح مع كل نزعة فدرالية. وفي الحركة الاشتراكية الروسية دافعت الايسكرا إذاً ، بصورة طبيعية جداً عن فكرة المركزة ونشرتها . ” [ص 32] . هذا الكلام نعترض عليه ونعتبره فهماً مبتذلاً للماركسية ، إذ ليس في الماركسية كمنهج ضرورة تظهر بشكل بديهي ، بل الضرورة دائماً موسطة ومشروطة بظروف زمانية ومكانية . وهذه الشروط هي التي تحدد ما إذا كان الميل للمركزة أم للتراخي والفدرالية في التنظيم، سواء أكان اجتماعياً أم سياسياً . والأمر الثاني ، أن الماركسية ليست ذات نزعة ممركزة هكذا بالمطلق ، بالرغم مما أشار إليه روجيه غارودي في كتابه “كارل ماركس” من وجود قانون في الماركسية أســـماه ” قانون الدمج” والذي ظهر على يد البيروقراطية السوفييتية في روسيا على أنه دمج كسول متسرع وغير فيدرالي . فالماركسية [خاصة الديالكتيك المادي كمنهج ما كروي/إجمالي في التحليل التاريخي/الاجتماعي] تحاول قراءة العلوم والإحاطة بها في حقلها، ودمج الخلاصة الجوهرية لهذه القراءة في تصورها العام ، لكن بعد أن تجتاز حقل هذه العلوم كاملاً ، مع ترك استقلالية ذاتية [حكم ذاتي فيدرالي] لكل “ولاية” في بيتها . فإذا كانت تعتبر ، أي الماركسية، النقد الأدبي ذو مضمون اجتماعي ، فلا يعني هذا أنها تتعامل مع هذا النقد معاملتها للاقتصاد السياسي . ولدينا أمثلة كبيرة على إسهامات ماركسية في هذا الشأن : جورج بليخانوف ، وجورج لوكاش في معالجتهما لمسألة تاريخية القيمة الجمالية ، والبنيوية التكوينية في الأدب .
المركزة ذاتها مشروطة ، والفدرالية مشروطة بزمان ومكان ، و”الدمج” الماركسي كإحاطة بعلم من العلوم والقبض عليه فلسفياً لا يلغي حق هذا العلم ؛ حقه الفيدرالي ونشاطه في حقله الخاص ، يكتب ماركس في تذييله للطبعة الثانية من رأس المال: “على البحث أن يحيط بالمادة في تفاصيلها وأن يحلل شتى أشكال تطورها وأن يتتبع الصلة الداخلية لهذه الأشكال . وفقط بعد أن يتم إنجاز هذا العمل يمكن تصوير الحركة الفعلية كما ينبغي” [رأس المال ص 27 ترجمة دار التقدم] . وهذا مناف للدمج البيروقراطي الذي يحرم كل علم من حقه في بيته الخاص ، ويختزله ، ويخضعه شكلياً وبشكل مسبق لتخطيطات الديالكتيك العامة . أي يرغمه على ترديد عبارات مجردة وعامة ذات قيمة تعليمية فحسب .
وحتى نشير إلى مفارقة كلام ليبمان ، دعونا نراه وهو يعالج فكر لينين بهذا الشكل المشروط والتاريخي بعيداً عن نزعة ممركزة بديهية مزعومة في الماركسية ، وبعيداً عن اتهامات بيروقراطية مبتذلة . يكتب ليبمان : “إن الهزة التي شهدها البلد(روسيا) أدت عام 1905 إلى هزة في الحزب تكاد تكون أقل عمقاً . لقد أعلن لينين في تشرين الثاني/ نوفمبر : “ينبغي تجديد كل شئ في كل لحظة منذ البداية “[ج 10] إن إرادة التجديد والتحديث هذه قد تجلت في ميادين مختلفة من حياة الحزب ، وعبرت عن نفسها بدمقرطة بناه وطرائقه. وكما يشهد على ذلك مارتوف : “سعى قادة التكتلين [بلاشفة ومناشفة] سعياً حثيثاً لفرض التسليم بالمبدأ الانتخابي” ” .
في مؤتمر لندن البلشفي نيسان/أبريل 1905 طرح لينين مشروعاً واستصدر عبر التصويت قراراً به يؤكد : “الأولوية الكاملة للمبدأ الانتخابي، الممكن والضروري في ظروف الحرية السياسية … لكن… الممكن حتى في ظل السلطة الاستبدادية بقدر أوسع بكثير (مما في الماضي) “[ج 8] . إن إدخال مبدأ انتخاب المسؤولين في كل المستويات كان شرطاً أول للدمقرطة . لقد صوت المؤتمر البلشفي عام 1905 لصالح استقلال اللجان حيال اللجنة المركزية التي شدخت سلطتها جدياً . بصدد هذه الإصلاحات أعلن لينين : “إن عمال بطرسبورغ الاشتراكيين الديمقراطيين يعرفون أن كل منظمة الحزب ترتكز الآن على قاعدة ديمقراطية . هذا يعني أن كل أعضاء الحزب يناقشون ويحلون المسائل المتعلقة بحملة سياسية للبروليتاريا . وأن كل أعضاء الحزب يحددون ما ينبغي أن يكون [عليه] تكتيك منظمات الحزب ” [ج 10] . ويضيف ليبمان : “ولدينا البرهان على أنه كانت هناك مشاركة واسعة لأعضاء الحزب في نقاش المسائل السياسية الكبرى ، وأنهم تدخلوا في القرارات التي كانت تتخذها الاشتراكية الديمقراطية الروسية .. وبصورة عامة ، نادى لينين بالقيام بـ “استفتاء حزبي ” بالنسبة لكل مسألة سياسية مهمة ” [الأعمال ج 11 ، أيضاً اللينينية ج 2 ص 48 ] .
وضع على رأس الحركة في بطرسبورغ كونفرانس ، وهي مؤسسة منتخبة ، تجتمع مرتين شهرياً ، وتخضع كل ستة اشهر لإعادة الانتخاب ، وتنتخب هي ذاتها لجنة الحزب في العاصمة . إن تعيين هذه اللجنة كان يجري من بين كل أعضاء الحزب .
في نوفمبر 1905 أكد لينين ما يلي : ” لا جدال في أن الكتابة Litterature [الجدل الفكري] أقل تحملاً من أي شئ آخر لفرض مساواة ميكانيكية ، لاعتماد تسوية، لإقامة سيطرة الأغلبية على الأقلية . في هذا الحقل طبعاً ، ينبغي ضمان مكانة أوسع للمبادرة الشخصية ، وللميول الفردية ، وللفكر والخيال .” [الأعمال ج 10] . بكلام آخر ، إذا كانت المسألة متعلقة بالنقاش الفكري يفترض هنا ترك أوسع مبادرة للرأي والرأي الآخر . وإذا دخلنا حقل الفعل السياسي فيغدو الأمر أمر سيطرة الأغلبية على الأقلية من أجل القدرة على إنجاز فعل محدد .
خلال تلك الفترة وحتى عام 1907 ، وفي هكذا مناخ ، وضعت الأسس ، ورسمت الخطوط العريضة لمبدأ سوف تتبناه الحركة الشيوعية نهائياً ، ولا تزال الإحالات إليه اليوم أيضاً ثابتة . هذا المبدأ هو مبدأ المركزية الديمقراطية . في أصوله يعكس بوجه خاص التقرب الذي كان قد حدث خلال ثورة 1905 بين البلاشفة و المناشفة . تبناه حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي الذي انعقد في استوكهولم عام 1906 وحيث كان يهيمن التكتل المنشفي* ، إلا أنه دمج في النظام الداخلي للحزب بمبادرة من لينين . إنه هو الذي قدم في المؤتمر مشروع قرار يؤكد أن مبدأ المركزية الديمقراطية في الحزب يحظى حالياً باعتراف الجميع . [ج 10] مضيفاً [لينين] أنه “ضمن الشروط السياسية القائمة، يكون تطبيق هذا المبدأ ، رغم صعوبته [بسبب الاستبداد السياسي ] ممكناً مع ذلك ضمن بعض الحدود ” [ج 10] .
كان المغزى الملموس لهذا المشروع هو أنه “ينبغي تطبيق مبدأ الانتخاب في منظمات الحزب من القاعدة إلى القمة ” [ج 11] .
بخصوص الأهمية التي كان يوليها لينين لهذا المبدأ ، ينطوي إعلان له في تقرير مخصص لمؤتمر استوكهولم على أهمية خاصة ، يؤكد فيه أنه ينبغي إنجاز “عمل مهم وجدي ، وتتعين بصدده مسؤوليات جمة [وهي] إدخال مبدأ المركزية الديمقراطية في منظمة الحزب إدخالاً فعلياً في الممارسة، والحصول عبر عمل عنيد على أن تصبح منظمات القاعدة ، حقاً وليس قولاً ، الخلايا الأساسية لمنظمة الحزب . وأن تكون كل الهيئات العليا منتخبة بالفعل ، وقابلة للعزل ، وملزمة بتقديم حساب عن نشاطها . بعبارات أخرى ، وبصورة أساسية ، تفترض المركزية الديمقراطية انتخاب قادة الحزب، وإمكانية عزلهم ، ومسؤليتهم .
ولكن للمركزية الديمقراطية تبعات أخرى : استقلالاً أكبر للفروع المحلية ، يكتب لينين : “إن استقلال أية منظمة حزبية .. ينبغي أن يكون قابلاً للتطبيق ، وأن يطبق بالفعل في الحياة ” [ج 10] . من جهة أخرى ، فإن ممارسة المركزية الديمقراطية “يعني بالضبط حرية النقد ، بالكامل وفي كل مكان ، طالما لا تقف حائلاً دون وحدة عمل حازم ، ورفض كل نقد يخرب أو يضايق وحدة عمل قرره الحزب ” [ج 10] . يكتب لينين : “ينبغي خوض هذا النقاش [لقرارات الحزب ] في الصحافة، والاجتماعات ، والحلقات والمجموعات ، وفي كل مكان ، فقط إذا قررنا بصورة جدية حقاً تطبيق المركزية الديمقراطية في حزبنا ” ويضيف : “ما من نقد يكون مقبولاً داخل جيش البروليتاريا الذي تكون قواه مشدودة [إلى العمل] . لكن طالما ليس ثمة دعوة إلى العمل ، ينبغي أن يكون هناك أوسع نقاش وأشده حرية وأوسع تقدير للقرار ومبرراته وأطروحاته الخاصة وأشده حرية ” [ج 10] . إذاً حرية النقاش ووحدة العمل .
لكن من يملك سلطة إطلاق هذه الدعوات إلى العمل ، التي تعلق حق النقد الجوهري؟ كان جواب لينين واضحاً : “المؤتمر وحده يمتلك هكذا صلاحية ” مع استثناء اللجنة المركزية كهيئة ينتخبها المؤتمر . ومع ذلك كتب لينين : “إننا نخضع لقررات [مؤتمر ستوكهولم ] ، لكن لا نخضع في أي من الحالات لأي من قرارات اللجنة المركزية التي تتعارض مع تلك القرارات [قرارات المؤتمر] ” [ج 11] . وفي الفترة ذاتها ، كان لينين يعتبر مع ذلك أنه “من المشروع ، في بعض الظروف ، خوض نضال أيديولوجي ضد.. قرارات للمؤتمر ننظر إليها على أنها خاطئة” [ج 11] . لقد اعترف لينين أن هذا المبدأ [المركزية الديمقراطية ] أدى إلى تقييد سلطات اللجنة المركزية لصالح هيئة أوسع [هي المؤتمر].
يقدم مفهوم المركزية الديمقراطية تحديداً أخيراً : إنه يفترض حق وجود أقلية داخل الحزب وحريتها في التعبير . كان لينين قد أشار إلى حقوق الأقلية عام 1903 و 1904 . ولكن لم يكن صريحاً ، محدداً إلا اعتباراً من عام 1905 . ففي المؤتمر البلشفي 1905 ، تقرر ضمان حقوق كل أقلية ، بشكل دقيق ومحدد ، هذه الحقوق التي تكرسها أنظمة الحزب . . يكون للأقلية مذاك الحق المطلق ، الذي تضمنه الأنظمة، المتمثل في الدفاع عن آرائها ، وأفكارها ، شرط ألا تصبح النقاشات والتباينات في الرأي أسباباً للتفكك والفوضى … وألا تشرذم قوانا وتقف حائلاً دون عمل إجماعي ضد السلطة والرأسماليين ” [ج 8] . كتب لينين عام 1907 : ” لا يمكن أن يكون هناك حزب جماهيري ، حزب طبقة ، إذا لم يسلط الضوء على الفروق الأساسية ، إذا لم يكن ثمة صراع مكشوف بين الاتجاهات المختلفة ” [ج 13] .
وعلى ضوء المصير الذي تلقاه المركزية الديمقراطية ، في تحولها إلى مركزية بيروقراطية تحت ضغط الصعود التاريخي للبيروقراطية السوفييتية في روسيا منتصف عشرينات القرن العشرين ، يبدو هذا الشرط مقلقاً بالتأكيد . لكن ينبغي أخذ تشديدات لينين في شرطها ؛ مكانها وزمانها . وفي سياق حرية التعبير والنقد الكبرى التي كانت تميز ممارسة الاشتراكية الديمقراطية الروسية وتراثها الغني بداية القرن العشرين.
أخيراً ، إذا رجعنا إلى التمييز الوارد تقليدياً داخل الأحزاب الديمقراطية [البورجوازية] في أوربا الغربية ، بين حق الاتجاه ، المعترف به ، لكن المتسامح معه أغلب الأحيان دون تشجيعه ، وحظر التكتلات ، لا يمكن إلا أن نبرز “ليبرالية” التحديد الأصلي للمركزية الديمقراطية . بكلام آخر ، إن هذا المبدأ ليس خاص بالأحزاب الشيوعية، بل مبدأ يمتد عمله إلى الأحزاب الديمقراطية البورجوازي [الليبرالية]**. ولكن يفترض في الأحزاب الشيوعية أن يكون التركيز أكبر بما لا يقاس على البعد الانتخابي للقيادات ، وحق عزلها، ومسؤوليتها ، ومشاركة فعلية للمنظمات القاعدية في جميع قرارات الحزب#
هوامش
* من أصل 111 مندوب كان هناك 62 منشفي و 46 بلشفي
** ينتمي مفهوم المركزية الديمقراطية تقليدياً إلى الاصطلاحات الماركسية اللينينية ، إلا أن لينين ذاته مد تطبيقه إلى الأحزاب من النموذج الاشتراكي الديمقراطي الأوربي . ففي عام 1916 وبداية 1917، حين كان يهتم بنشاط الحزب الاشتراكي السويسري ، شارك في اجتماعات لجناحه اليساري ، وأكد أنه ثمة أرضاً موجودة لتأسيس اتجاه يساري في الحزب السويسري . [ج 43 ] .
# إلى القارئ : نظراً لفقر المراجع باللغة العربية التي تخص تراث لينين النظري ، ونظراً لافتقادنا مراجع رصينة وشاملة ، ونظراً لغنى الاستشهادات والاقتباسات عن أعمال لينين الكاملة ، ولكثافة مراجع الكتاب عن الثورة الروسية و اللينينية والبلشفية، فقد اضطررت للاعتماد بشكل أساسي على كتاب مارسيل ليبمان :”اللينينية في ظل لينين – الجزء الأول، الاستيلاء على السلطة ، ترجمة كميل داغر دار الحصاد دمشق 1988 “. الكتاب في مجلدين، الأول مخصص لاستيلاء البلاشفة على السلطة ، والثاني لامتحان السلطة . وكنت قد اعتمدت على الكتاب ذاته في كتابة مقالتين : الأولى بعنوان “اللينينية ” وهي منشورة في كتابي “في القول السياسي 1” 1999 ، والثانية بعنوان “حول الديمقراطية السوفييتية ” وهي منشورة في كتابي “في القول السياسي 2 ” 2002 .