تُجمع أحزاب الوسط العلماني واليسار الفلسطيني على أن المنهاج الفلسطيني الذي صيغ إبّان قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد توقيع اتفاق أوسلو، ودرّس لاحقا في مناطق حكم السلطة الفلسطينية، أنه منهاج محافظ تتقاطع فيه قيم المجتمع الذكوري البطرياركي “الأبوي” من جهة، مع قيم التراث الغيبي اللاعقلاني والأحادي من جهة ثانية، مع قيم الفردانية المُستلبة للآخر المستعمِر من جهة ثالثة ليشكل خليطا فريدًا يكرّس ثقافة العجز والخضوع والحلول الغيبية والشعوذة، وليزيد من غربة الفلسطيني عن ذاته وإمكاناته العقلية، وعن مجتمعه ووطنه ودوره التغيري والتحرري. أما عن أساليب تدريس هذا المنهاج فتوظّف وسائل وأدوات تدور في فلك التلقين وتتمحور حول المدرّس لتمنع الطالب عن إعمال العقل والتفكير النقدي والتجربة العملية فتزيد من كارثية المناهج القاتلة لأي بعد تحليلي ولتزيد من وطأة المأساة الثقافية عند الأجيال الصاعدة.
يبلغ التناقض أشدّه بين ما تدّعيه السلطة الفلسطينية من كونها صاحبة مشروع وطني ديمقراطي علماني يستند لمفاهيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الانسان ضمن نظام الدولة الحديثة، من جهة، وبين ما يكرّس فعلا وما تمارسه الجهات التنفيذية المخوّلة بإدارة العملية التعليمية كوزارة التربية والتعليم العالي من جهة ثانية، حيث نشاهد بأم أعيننا عملية ترسيخ الثقافة التقليدية المرتبطة بالذكورة والأبوية والقبلية. ومن المعلوم أن الثقافة البطرياركية “الأبوية” تسهم في عزل شرائح واسعة من المجتمع عن حقها في إدارة السلطة والموارد، فمن عزل المرأة لعزل الأجيال الشابة لعزل آخر يشمل كل من يفكر ويحمل وجهات نظر تقدمية، وصولا لعزل الغالبية الساحقة من الجماهير الشعبية.
وهذا ما يظهر لنا في كتب المنهاج الدراسي حيث عظيم التبجيل للمجتمع الذكوري الأبوي الديني فبدلا من تشييد هوية الفرد في المجتمع على أساسات الحداثة والمواطنة والمساواة وحقوق الانسان يتم التركيز على التقسيمات الدينية والعرقية القروسطية وذلك باستدعاء الصراعات التاريخية بين المسلمين والصليبيين في كتب التاريخ. كما واستجداء الفتاوى الأكثر نكوصاً وتراجعاً لإضفاء الشرعية على ذكورة وأبوية المجتمع: فمن هو أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة، والمرأة ناقصة في العقل والدين، وستفسد الأمة إذا ما حكمتها امرأة، وأن الحدود الشرعية للمرأة في المشاركة السياسية تقتصر على البيعة لأمير المؤمنين وفي أحسن الأحوال تقديم المشورة له كما في كتب التربية الدينية.ويترتب على ذلك تعزيز وتثبيت الثقافة الأبوية والقبلية والذكورية السائدة.
تنطلق وزارة التربية والتعليم العالي في فلسطين من رؤيا مفادها أهمية التمسّك بالتراث العربي الاسلامي باعتباره الامتداد الثقافي والحضاري للحاضر الفلسطيني والعربي، لكن عندما نفكّر بأهداف الوزارة أكثر نسأل: أي تراث تقصد وبأي تراث تتمسك؟ فالتاريخ العربي الاسلامي شهد التنوع والاختلاف من عهد المعتزلة إلي عهد السنة الأشاعرة مرورا بالشيعة والصوفية، واستمر بعهد الفلاسفة المثاليين منهم والماديين، وغيرهم. فماذا يترتب على اختيار هذا التاريخ دون غيره وهذا التراث دون سواه؟ والأمر الآخر كيف سيتم التعامل مع تراث الآخر؟ في هذا المضمار لا نكون قد ظلمنا الجهة التي أعدّت الكتب الدراسية إذا ما اتهمناها بالانتقائية والاستناد إلي النظرة الأحادية والمطلقة والغيبية. وهذا الذي نلمسه حين التنقل بين صفحات الكتب الدراسية في التاريخ واللغة العربية وتحديدا في التربية الاسلامية فمن المراجع الأكثر قتلاً للعقل والفكر والتساؤل، والتواريخ الأقل مصداقية والبعيدة كل البعد عن المنطق العقلي والمنهاج التاريخي الرصين، مرورا بسياسة التلفيق والتوفيق بين المتناقضات تبريرا للوضع السائد، وصولا لسيادة المنطق الغيبي الأسطوري على المنطق العقلي في التحليل. فعوضًا عن الاستعانة بفلاسفة التقدّم والعقل من تاريخنا العربي الاسلامي أمثال ابن رشد يتم تقديم شيوخ النقل والجمود حيث يهيمن ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد رشيد رضا على فصل السير والتراجم في كتاب التربية الإسلامية لمرحلة الثانوية العامة على سبيل المثال. كما ويمارس الانتقاء والحجب والإقصاء للمراجع الفكرية والتاريخية المخالفة لتصورات الدعوة الدينية بصبغتها القدرية، فبدلا من كتاب علمي يدرّس أنماط التربية الدينية صيغ ليكون كتابا دعويا يدعو لقيم العجز والرضوخ: من ضرورة القبول بالحاكم ولو كان فاسقاً إلي رهن استمرار الإيمان بالبقاء تحت رعاية الإمام وولي الأمر. وصولا لتقديم الاقتصاد الرأسمالي بغلاف اسلامي أخلاقي في فقه المعاملات. ناهيك عن الحجر على الفلسفة وتدريسها، فلم يفرد لأم العلوم كتاب يحدّث عنها وعن تاريخها. أما في العلوم وعالم الطبيعة فالقوانين الفيزيائية والكيميائية قابلة للتجاوز مع تدخّل قوى الغيب والسحاب!
والنتيجة تأسيس منطق ذكوري أحادي تلفيقي مطلق يقبل بالخزعبلات ويركن للقدر، يعمل على تثبيت الواقع الطبقي السائد، ليكون المستفيد الأبرز من ذلك كلّه هم القلّة التي تتزعم السلطة والنفوذ في عالم الجماهير القابلة بالنصيب والمسبّحة بحمد الله!
لم تكتف السلطة الفلسطينية بالامتثال والخضوع لمصالح القلّة الحاكمة داخلياً بل فاقمت ذلك بتبعية واستلاب آخر للخارج، وذلك بإتباعها للحلول الجاهزة وتقمّصها لطروحات الآخر المستعمِر بدون أدنى وعي بالسياق التاريخي لتطور المجتمعات الحديثة ولا بخصوصية التجربة الفلسطينية تحت الاحتلال. يتمظهر الاستلاب حين تمجّد الذات ثقافة الآخر وحين تسعى بكل إمكاناتها للاندماج والذوبان فيها، وهذا ما نراه جلياً في كتب المنهاج الدراسي الفلسطيني حيث يتم الترويج للتجربة الأمريكية بثقافتها الفردانية وطرحها الليبرالي الاجتماعي واقتصادها الرأسمالي وكأنها التجربة المثلى التي استطاعت أن تحقّق ذروة التقدّم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بفترة وجيزة، ليتبقى علينا محاكاة التجربة وتقمّصها كما والتغنّي بها.
كل ذلك على حساب التفكير النقدي في التجربة الرأسمالية ومحدداتها التاريخية. وهذا الذي نلمسه في كتاب مادة القضايا المعاصرة لمرحلة الثانوية العامة. وهنا أسأل: هل فعلا الرأسمالية والسوق الحرّة هي الطريق الوحيد على درب التصنيع وبناء اقتصاد الدولة الحديثة؟ ولماذا عجزت شعوب العالم الثالث على مر عشرات السنوات السابقة من رأسمالية عن النهوض الاقتصادي والاجتماعي؟ وماذا بشأن التجارب الاقتصادية الأخرى كما في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والتي هي أيضاً شقّت طريقها للتقدّم بدون الرأسمالية؟ ولماذا لا يتم التعاطي مع هذه التجارب إلا بوصفها نماذج استثنائية غير قابلة حتى للبحث؟ ويبقى السؤال الذي لطالما نبّه له الكثيرون: هل فعلاً يمكن تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية للدول النامية عن طريق توظيف سياسات السوق المفتوح في عالم هيمنة الامبريالية الأمريكية والشركات متعددة الجنسية؟ قد لا يعرف الطالب ابن المرحلة الاعدادية أو الثانوية بالغايات الخافية وراء النظام الاقتصادي القائم وأعمدته البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، لكنه وبكل تأكيد، يعايش الأزمة المالية الخانقة والتي تشتد عليه وعلى محيطه أكثر على مر السنين. ناهيك عن الخصوصية الفلسطينية في تجربة الهجرة والصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، وتجربة سلطة الحكم الذاتي تحت الاحتلال.
أما على صعيد الطرح الليبرالي الثقافي والاجتماعي، فإن شكّل كتاب التربية المدنية تقدما نوعياً إذا ما قورن بكتاب التربية الدينية، في طرحه للديمقراطية والعلمنة وتعليم وعمل المرأة وتنظيم النسل وحرية الرأي إلخ، إلا أنه عمل على قولبت طرحه الديمقراطي والتحرري في صيغ تكرّس ما هو قائم لأصحاب السلطة والمال والنفوذ. فخرج بتوليفة غاية في التناقض تدّعي التماهي بين مبادئ الحكم الديمقراطي وبين الحكم على الأساس الديني، وساوى بين الديمقراطية وبين الشورى، وبين المواطنين في النظام المدني وبين الرعية في ظل أنظمة الحكم المطلق. فقدّم مغالطات مفاهيمية سيكون لها الأثر الكارثي على موقف الدارس من الحرية، والخطر الأهم على منطقه في المحاكمة العقلية للظواهر.
كذلك لم تأت على نقد حقيقي للنظام الديمقراطي الليبرالي. والنقد هنا بمعنى تحليل الظاهرة في ضوء التجربة التاريخية وتظهير وإبراز لما في الموضوع من محاسن أو مساوئ. فعلى الرغم من أن الحرية الأمريكية تكفل لكل مواطن حق الترشح لكرسي الرئاسة، لكن واقعيا من هو الأمريكي الذي يستطيع ذلك خصوصاً إن لم يكن لديه من الدولارات مئات الملايين؟
على الرغم من إدراك نخبنا الفلسطينية المتنورة والتقدمية لفداحة الأزمة التي يؤسس لها، بوعي أو بغير وعي، من قبل اللجنة المشرفة على إعداد المناهج الدراسية إلا أننا لم نسمع عن أي محاولة حقيقية لمسائلة هذه اللجنة على مر الحكومات التي تعاقبت على السلطة حتى الآن، كما لم تجرِ أي محاولة لتحليل هذه المناهج أو استشراف مخاطرها ومصائبها المستقبلية المدمّرة. حيث لم يتصدَ بالنقد والتحليل لهذا المنهاج أياً من الأحزاب التقدمية والعلمانية ولا مؤسسات المجتمع المدني.
فهل هو غياب الوعي بحجم ودور وزارة كالتربية والتعليم والتي أقل ما يقال عنها أنها أحد أهم المحاور المفصلية في المجتمع؟ أم هي حالة التشظّي والوهن التي تصيب المجتمع المدني الفلسطيني عموما بأحزابه ومؤسساته؟ بل والأمر الذي يزيد فداحة المأساة أن الحزب الوحيد الذي أنجز قراءة نقدية للمنهاج الفلسطيني هو حزب التحرير -وهو حزب اسلامي يطالب بإقامة الخلافة – والذي خرج بنتائج تكفّر هذا المنهاج!
من الواضح أن تمدد ظاهرة الأخونة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينات قد دفع بقيادة السلطة الفلسطينية الناشئة إلي التراجع عمّا كانت قد أقرّته منظمة التحرير الفلسطينية في وثيقة الاستقلال عام 1988 حيث نلحظ ولأول مرة الحديث عن أن الاسلام هو الدين الرسمي للدولة أو أن الشريعة الاسلامية مصدرا أساسياً للتشريع. وهنا أسجّل الخلاصة: إن حركة فتح التي تولّت الحكم الفعلي بعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ أوسلو مع الاحتلال الاسرائيلي، وعنيت بصياغة النظام الأساسي “الدستور” وكل المؤسسات السيادية الأخرى للسلطة قد صبغت المؤسسات الناشئة بالصبغة المحافظة والذاتية المستلبة للمستعمِر تماشياً مع إملاءات الاحتلال الاسرائيلي من جهة، ومجاراة لتصاعد التيار الديني المحافظ من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة تركيزا لهيمنة الطغمة المالية والسياسية الحاكمة، فتجاهلت السلطة دور التعليم والثقافة كرافعة لوعي الناس نحو التحرر المجتمعي والوطني، وعملت على النقيض بدفع لغة اللاعقل واللامنطق إلى الأمام بغية تثبيت قيم الخضوع والقبول بالأمر الواقع والقضاء والقدر، فمن تعزيز دور المختار إلي تعزيز الحلول البعيدة عن روح المواطنة والمرتبطة بالعلاقات الوشائجية وصولا إلي تعطيل العملية الديمقراطية في كافة أرجاء النـظام السياسي الفلسطيني.