بقلم مصطفى القلعي كاتب وباحث سياسي من تونس
باريس رمز الحضارة الغربيّة والإنسانيّة مسرح للإرهاب التكفيري الأعمى. أسبوع أسود دام عاشته عاصمة الأنوار التي منها انطلق شعاع الحضارة في القرن التاسع عشر يشقّ ظلام البشريّة ويفتحها على التنوير وآفاقه الإنسانيّة الفسيحة. الإرهاب التكفيري يضرب بقسوة عمق الحضارة الإنسانيّة حقدا وحنقا، وعجزا عن القدرة على العيش في رحاب الكونيّة الإنسانيّة بقيمها الأساسية القائمة على التقدم والحرية والديمقراطية. لماذا باريس؟ ولماذا استهداف رموز الحرية في باريس؟
باريس لأنها لم تحسم في مسألة ذات أهمية فلسفيّة قصوى، مفادها أن للحرية حدين متناقضين هما؛ الحق والمسؤولية. ظلت معادلة الحرية هذه عصية على الحسم منذ مونتسكيو إلى جيل دولوز. يستميت الفلاسفة الفرنسيون والمجتمع المدني الفرنسي في الدفاع عن الحرية باعتبارها حقّا إنسانيّا مقدّسا في الداخل الفرنسي، في الوقت الذي لا تمتنع فيه دولتهم عن زخ قنابلها على دول حرة أخرى بدعوى المسؤولية عن الحرية.
أما رموز الحرية فهم الهدف الأسهل لأعداء الحرية في كل مكان، من سقراط أثينا إلى الحلاّج إلى الشابي إلى شكري بلعيد إلى محمد براهمي إلى رسام شارلي هبدو. الجنسية لا تعني شيئا عند الإرهابيين التكفيريين. فهم ليسوا مواطنين ولا وطنيين ولا مظاليم يدافعون عن قضيّة عادلة، بل ماكنات اغتيال مجهّزة بأجهزة الإفتاء الخالية من الدراية والمعرفة المتّكئة على غلبة الجهل وما يتيحه للذات الجاهلة من نزق عن ذاتها. ضحاياهم هم من يكفّرونهم بقطع النظر عن جنسياتهم. فالمسلم والمسيحي واليهودي واللائكي والعربي والغربي والآسيوي والأبيض وذو البشرة السمراء لا فرق بينهم، فكلّهم أهداف بعد التكفير.
هكذا هم؛ تكفيريون إرهابيون أو إرهابيون بعد التكفير، يعني يكفرون الهدف، ثمّ يستحلّون دمه رغم أنّ كلّ ضحاياهم من حملة القلم والفكر والريشة. من يسمح لهم بتكفير ضحاياهم؟ لا أحد. هم يسمحون لأنفسهم ولا ينتظرون من أحد أن يفعل. هكذا قدّروا في قرية الفحص الريفيّة في ريف محافظة زغوان غربي تونس الأسبوع الماضي. قال أحد التكفيريين الثلاثة: “قلنا لابد أن نقتل عسكريّا أو أمنيّا” لماذا؟ قيل لهم. “لأنهم طاغوت”، أجاب. شاب يعمل شرطيّا عمره 23 سنة يعيل عائلة بأمّ وأب وصبايا عازبات قرّر التكفيريّون أنّه طاغوت وجب قتله بعد أن وضعته الصدفة في طريقهم.
خرجوا للاحتطاب في الطريق العام وسفك ما تيسر من الدماء الطاهرة بعد صلاة العشاء. لا أحد سوى بعض السكارى في سيارة تعلو أصواتهم بالقهقهات. تركوهم لأنّهم ليسوا طواغيت وعادوا أدراجهم، فالتحق بهم محمد علي الشرغبي، الشرطي الشاب على درّاجته الهوائيّة عائدا من العمل يمنّي نفسه بقبلة دافئة على جبينه من أمّه المقعدة. فأفتوا، وهم المنقطعون عن المدرسة منذ سني الطفولة المبكّرة، بسرعة ضوئيّة دون حاجة إلى مسانيد ولا إلى مصادر للتشريع بأنّ محمد علي رفيق صباهم في المدرسة وجارهم في القرية طاغوت، فهوت عليه السواطير شجّت رأسه وقطعت أنامله واخترقت السكاكين قلبه وكبده.
لا فرق في هويّة المعتدي، يا باريس، فالإرهاب التكفيري الذي يضرب في تونس هو نفسه الذي يضرب في ضاحية فانسان. إنّ أيادي الإرهاب التكفيري التي اغتالت شهيدي الجبهة الشعبية في تونس شكري بلعيد ومحمد براهمي، وذبحت أكثر من 60 مجنّدا من شهداء الأمن والجيش التونسي، وقتلت الشرطي محمد علي الشرغبي، هي نفسها التي ضربت في باريس حين اغتالت صحفيّي شارلي هبدو والمواطنين الفرنسيّين الأبرياء.
الفرق في طبيعة المعتدى عليه؛ فتونس تصدّت بشجاعة نادرة للإرهاب التكفيري رغم ضيق الإمكانيّات وضعف الاستعلامات الاستخباراتيّة، بينما فرنسا دولة قوية تجرب قوتها خارج حدودها. تونس تُمَكِّنُ حزبا إسلامويا رجعيا من التوطن فيها، بينما فرنسا دولة علمانيّة حسمت منذ الجمهوريّة الثانية في الفصل بين الدين والسياسة. تونس مجتمع مدني مقصوص الجناحين يجاهد سلميّا ليؤمّن مستقبل أطفاله، بينما فرنسا لم تجد حرجا في دعم إسلاميي تونس. لا فرق، يا فرنسا، فكلّهم أبناء ابن تيّميّة وابن القيم والمودودي وحسن البنّا وسيّد قطب. لا خير فيهم أبدا. ولن يكونوا مدنيّين أبدا.
فرنسا لم تقدّر شجاعة تونس في مقاومة الإرهاب لأنّها أساءت تقدير هذا الخطر أوّلا، ولأنّها كانت مع بقيّة الدول الغربية طرفا في صنعه ثانيا، ولأنّ التزامها بعلاقاتها العسكرية مع حلفائها في النيتو، أعمتها، عن ملاحظة الخطر الداخلي المحدق بها ثالثا، ولأنّ ما تعتقد أنّها مصالحها الخارجيّة العليا تبيح لها التعامل الرمادي مع الإرهاب التكفيري رابعا.
أخطأت فرنسا وأوروبا كلّها مثلما أخطأت أميركا سابقا عندما توهّمت أنّها في مأمن من ضربات الإرهاب التكفيري. لابد وأنّ فرنسا، ولندن وكلّ العواصم الأوروبيّة، تتذكّر أنّها آوتهم ووفّرت لهم الملاذ والمقام والحماية. ليس لوجه الله طبعا. بل احتراما لمدنيتها وحقوق البشر المدنيّة على أراضيها من جهة، ولاستعمالهم أوراق ضغط على الأنظمة المارقة المتصلّبة أمام مصالحهم وأطماعهم من جهة ثانية.
بقي، ونحن بصدد الحديث عن الإرهاب، أنّه لابد من التذكير بأنّ إرهاب الدولة الذي تمارسه أنظمة وحكومات لا يقل دموية عن الإرهاب التكفيري الذي ترتكبه أيديولوجيات وتيّارات وجماعات. ليتني أتمكّن من تحديد انفعالات نتنياهو وهو يتقدّم زعماء العالم المتعاطفين مع باريس التي أوجعها الإرهاب التكفيري وآذاها، وليتني أسأل قادة أوروبا والعالم الذين هبّوا إلى باريس تنديدا بالإرهاب؛ هل سمعتم برام الله وغزّة وبيروت والعامريّة وبغداد؟ كيف يسعّر عندكم الدم البشريّ؟ وكم أودّ أن أسأل فرانسوا هولاند؛ متى ستنظّم مسيرة ضدّ الإرهاب في غزّة وأخرى في الموصل وثالثة في القدس؟ السؤال الأخير؛ ما الذي سيتلو هذه المسيرة؟ بعد 11 أيلول (سبتمبر) تمّ تخريب الشرق الأوسط، فما الذي تخبّئه غرف السياسيين المغلقة بعد اعتداءات باريس الغادرة؟