-
مثّلت الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية في تونس حلقة مهمّة في المسار الثوري الذي شهدته البلاد منذ اندلاع ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي 2011. فبخلاف كل التجارب الثورية في الوطن العربي والتي باءت معظمها بالفشل أو بالارتداد إلى ما كانت عليه، دون تحقيق الأدنى من الحريات السياسية، كحرية التعبير وحرّية التّنظّم، وهو مثال ما حدث في مصر أين عاد العسكر ونظام الجنرالات إلى الحكم وذلك بطريقة فجّة قطعت الطريق أمام المدّ الثوري الذي كان سيطيح بحكم الأخوان بأسلوب ثوري مدني دون تدخّل آلة الجيش والجنرالات عندما نزل إلى الشارع قرابة الثلاثون مليون مواطن ضد حكم المرشدْ رافعين شعار “يسقط يسقط حكم المرشدْ”.. إن هذا لا يعني أن الثورة التونسية حقّقت أهدافها أو لم تشهد محاولات الانزياح بها عن أهدافها الحقيقية وهي أهداف ذات طابع سياسي متمثّل في الحرية والديمقراطية وطابع اجتماعي تمركز في مطلب الشغل والكرامة الوطنية، إلى ثورة تعمل على تغيير النمط الحضاري للمجتمع التونسي الذي تأسس على المدنية والتّحضر وحرية المرأة وحرية اللباس الخ… إلى مجتمع متأسلم بنمط عيش أفغاني وبقوانين عفا عنها الدّهر، لكن يقظة النخبة السياسية والمجتمع المدني كان صمام الأمان ضد الذهاب بالبلاد إلى حمام دم وفتنة وتقاتل وتكفير وإلى عصور الظلام. فتعالت الأصوات الحرّة المنادية بالتصدّي لمحاولة الأخوان المسلمين بقيادة حركة النهضة، تغيير النمط الحضاري للمجتمع والاستيلاء على الدولة واخذ الشّعب رهينة جزاء له على اختياره لهم في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي بتاريخ 23 أكتوبر 2011، وكان نتاج ذلك اغتيال الرفيق شكري بلعيد، حدث جعل المسار الثوري يأخذ منحا آخر تمثّل في الدعوة التي أطلقها اليسار والجبهة الشعبية إلى عقد مؤتمر إنقاذ وعُزِّزَ هذا المنحى بجريمة اغتيال الشهيد الحاج محمد البراهمي، وتحوّلت الدعوة من عقد مؤتمر إلى تحرّك ميداني جمّع كل القوى السياسية المدنية التي آمنت بمدنية الدّولة بدرجات مختلفة طبعا، اعتصام أمام مقر المجلس التأسيسي توِّج بإسقاط حكومة الثلاثي أو ما سمّي بالـ”ترويكا” بقيادة حركة النهضة الإسلامية. وما انتخابات 26 أكتوبر 2014 التي صعد بموجبها نداء تونس إلى سدّة الحكم بحصوله على الأغلبية في البرلمان وبفوز رئيس حزب نداء تونس برئاسة الدّولة إلاّ نتيجة متوقّعة لهذا التّمشي، فحصول قوى اليسار الثوري المتمثّلة في الجبهة الشعبية على المرتبة الرابعة بـ15 مقعد في البرلمان يعد مكسب حقيقي وتقدّم مهم في تكريس اليسار وتقدّمه انتخابيا في الحاضر وفي المستقبل خاصة بعد حصول مرشحها للرئاسة الرفيق حمّه الهمامي على المرتبة الثالثة. ولقد كان موقف الجبهة الشعبية في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية على درجة من الوضوح ومن النّضج حيث دعا الناس والناخبين إلى إنجاح التجربة السياسية وتركيز التداول السلمي على السلطة عبر صناديق الاقتراع بعيدا عن الانقلابات العسكرية والأمنية، كما أنّه خيّر ناخبيه وأنصاره بين التصويت للباجي قائد السبسي أو وضع ورقة بيضاء وقطع الطريق أمام عودة النهضة وممثلها المرزوقي إلى الحكم. إن عدم مساندة الباجي قايد السبسي في الدور الثاني بشكل صريح وواضح مردّه إلى عدم وضوح برنامج نداء تونس وموقفه من حكومة الفشل ومنظومة الترويكا ورموز النظام الاستبدادي البائد وهو ما سينعكس على مشاورات الجبهة الشعبية وموقفها من الحكومة القادمة ورئاسة الدولة وسياساتها. وهذا ما ورد واضحا في بيان مجلس الأمناء للجبهة الشعبية في اجتماعها المنعقد في 24 ديسمبر 2014 حيث ورد ما يلي: يؤكد على ضرورة توسيع المشاورات حول تشكيل الحكومة ويعتبر أن الحكومة القادمة لا يمكن أن توفق في إنقاذ تونس (أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ) إلا إذا كان برنامجها معبرا عن الحد الأدنى من أهداف الثورة في الشغل والحرية والكرامة الوطنية وهي لن تستطيع تأمين الاستقرار بالبلاد إلا إذا استبعدت من تركيبتها رموز الفشل من منظومة الترويكا المتهاوية ورموز النظام الاستبدادي البائد الذين اكتوى الشعب بنتائج حكمهم لسنين طوال. إن حقيقة البرامج الاقتصادية والخيارات الاجتماعية بين النهضة ونداء تونس لا فرق بينهما، فكلاهما يخضع لإملاءات الدوائر المالي العالمية التي تمدّهم بالقروض مقابل رفع الدعم والتفويت في المؤسسات العمومية لصالح الخواص والمستثمرين الذّين لا يراعون حاجة الفئات الاجتماعية الضعيفة ولا هم لهم سوى الرّبح، وهو ما من شأنه أن يجعل خيارات حكومة نداء تونس ورئاسة الباجي قايد السبسي استمرار للخيارات القديمة التي كانت سببا انطلاق الثورة. وهو ما ينبئ في المدى المتوسّط بانطلاق ثورة سيكون عنوانها اجتماعيا بحتا وفي هذه المرّة سيكون قادتها تنظيمات سياسية معلومة مكشوفة الوجه والانتماء.. زد على ذلك الوضع الأمني المتوتّر الذّي أصبح على حافة بركان بما أفرزته حكومة النهضة من انتشار للإرهاب وللخلايا الإرهابية المنتشرة في بعض المدن وبعض الجيهات الجبلية بشمال البلاد والحدود الجزائرية الليبية، سيكون ذريعة لشن حملة على الحريات تحت يافطة مواجهة الخطر الدّاهم، وقد عمل نداء تونس في حملته الدّعائية في الانتخابات التشريعية والرئاسية على أساس إرجاع هيبة الدّولة ومواجهة الإرهاب، وهو ما ينبئ بهجمة على الحريات التي اكتسبها الشعب التونسي بدم الشهداء بتعلّة خطر الإرهاب.. وهذا مبرر آخر يجعل من استمرار المسار الثوري في تونس لم يهدأ ويقظة القوى السياسية الثورية متّقدة وبالمرصاد لكل محاولة الارتداد بالمسار الثوري سواء في المستوى الاجتماعي أو السياسية والحريات. لكن هذه المرّة بسند تنظيمي موحّد تحت راية الجبهة الشعبية وبتجربة نضالية وميدانية جعلت من مناضليها قادة ميدانيين لهم مصداقيتهم وإشعاعهم.
سمير طعم الله: كاتب ومثقف تونسي
مقال نشر بمجلّة النداء اللبنانية بتاريخ 9 جانفي 2015
الوسوم :إجتماعية ثورة سمير طعم الله