أجمعت جميع القوى التقدميّة في العالم على التنديد بالعملية الإرهابية التي استهدفت مقرّ جريدة “شارلي هبدو” الساخرة واعتبرت العملية موجّهة ضدّ حرية التعبير والنقد. وعمدت القوى اليمينية في فرنسا وعديد البلدان الأوروبية للخلط المتعمّد بين منفّذي العملية المذكورة وهم فرنسيّو الجنسية لكن منحدرين من أصول عربية وبين المهاجرين العرب بصفة عامّة. وارتفعت الأصوات المنادية بطردهم وباتخاذ الإجراءات الزجرية للحدّ من الهجرة، بل تجاوز الأمر مستوى التنديد إلى التحرّش بجميع هؤلاء دون تمييز ومضايقتهم والاعتداء على أماكن عبادتهم وبعض مراكزهم الثقافية.
وفي حملة انتخابية سابقة لأوانها، صرّح الوزير الأول اليوناني الذي أغرقت سياسات حكومته البلاد في أزمة لا أمل لليونانيين في الخروج منها: “اليوم جدّت في باريس مجزرة رهيبة ذهب ضحيتها إثنا عشر شخصا، بينما يواصل البعض هنا في اليونان دعم الهجرة غير الشرعية ويعِدُون بتسوية وضعيات هؤلاء” في إشارة منه لما تطرحه جبهة سيرسزا المنافس الجدّي لحزبه في انتخابات 25 جانفي القادم، وهو بذلك يخلط متعمّدا بين الإرهاب والهجرة.
واستغلّت كلّ الحكومات الأوروبية ،التي تواجه سياساتها العدوانية والليبرالية المتوحشة رفضا شعبيا، هذا الحدث الأليم لتلهية مواطنيها عن مشاغلهم الحياتية وتوجيههم نحو عدوّ شاركت بنفسها في صنعه لتكتوي بنيرانه شعوب أخرى ألا وهو الإرهاب. بل وذهب الأمر بالرئيس الفرنسي إلى رفع شعار “الوحدة الوطنية” لمواجهته والدعوة إلى مسيرة تجمع جميع القوى السياسية والمدنية بما فيها قوى أقصى اليمين العنصرية. وراحت الصحافة تُجري المقارنات بين مأساة شارلي هبدو وما حصل يوم 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة، لعلّها بذلك تقرع طبول الحرب مثلما حصل غداة حادثة تدمير البرجين الأمريكيين وما أدّت إليه من اعتداءات بربرية وحشية على بلدان ذات سيادة وشعوب لم يكن يخطر ببالها أنّها مقبلة على ما هي عليه اليوم من دمار.
ولإضفاء صبغة دولية على الحدث، استدعى فرانسوا هولاند “زعماء” العالم لمشاركته في مسيرته المليونية، فقدموا على عجل حتّى أنّ بعضهم لم يجد الوقت الكافي لغسل يديه الملطّخة بالدماء، فكانت المسيرة التي من شأنها التعبير على المواساة لعائلات الضحايا عبارة على كرنافال حقيقي حيث لبس الجميع أقنعة الحمائم المسالمة ليتصدّر الصفوف الأمامية التي ضمّت، من فرط المهزلة، الجلاد والضحية حيث وقف بنيامين نيتانياهو على بعد مترين فقط من محمود عبّاس ومن ورائهم الكثير ممّن يضعون أيديهم في أيدي النازيين الجدد أمثال رئيس وزراء أوكرانيا والأمين العام لحلف شمال الأطلسي، الذراع العسكري للإمبريالية العالمية. وفي خضمّ هذا وذاك، أعلن باراك أوباما تنظيم مؤتمر دولي لمناهضة الإرهاب يوم 18 فيفري المقبل. إنّهم “يبيعون القرد ويسخرون من الذي اشتراه”، كما يقول المثل عندنا.
لكن الثوريين والتقدّميين في فرنسا لم تنطل عليهم حيلة “الوحدة الوطنية” و”مقاومة الإرهاب” ورفضوا الاصطفاف وراء البورجوازية، إذ عبّرت عديد الأحزاب والمنظمات النقابية والمثقّفون والفنّانون أنّهم يرفضون المشاركة في مسيرة اليمين الفرنسي والدولي، مسيرة يشارك فيها أساطين الإرهاب والداعمين له، ودعوا إلى مسيرات مواطنية موازية تندّد فعلا بالإرهاب لا فقط ذلك الذي تأتيه الجماعات الدينية والفاشية والنيو نازية، بل وكذلك إرهاب الدولة الذي يمارسه الكثير ممّن يتصدّرون مسيرة 11 جانفي في ساحة الجمهورية بباريس.
ومن بين البيانات العديدة التي نشرت بالمناسبة، ننشر مقتطفا من بيان الحزب الشيوعي لعمّال فرنسا بتاريخ 8 جانفي الجاري:
“إنّ اغتيال اثني عشر شخصا من بينهم أبرز مصوّري وصحافيي شارلي هبدو يثير مشاعر المواساة والغضب لدى الشعب. إنّ هذا العمل الجبان استهدف في الواقع حرية التعبير والنقد الساخر. وإنّ الخروج التلقائي لعشرات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع مساء الحادثة جاء للتعبير على رفض هذه الجريمة وللتأكيد على أنّ الشعب لن يستسلم للترهيب. أمّا الرسالة الثانية لهذه المسيرات فهي للتعبير عن رفض أيّ خلط يقصد منه خلق أعداء وهميّين كالتخويف من الديانة الإسلامية مثلا… وكما ذكرنا في بيان سابق، فإنّه حان الوقت للكفّ عن توظيف الدين ـ أيّ كان ـ للتفرقة بين المواطنين والتشكيك في قيم التسامح والأخوّة.
وقد صرّح رئيس الجمهورية أنّ البلاد تنطلق بقوّة في الحرب ضدّ الإرهاب ، وهذا الخطاب يذكّرنا بخطاب جورج بوش غداة أحداث 11 سبتمبر، وقد ردّد بعض الساسة وكذلك وسائل الإعلام هذا الخطاب ودعوا إلى الوحدة الوطنية.
إنّنا نعلن بصراحة رفضنا لهذه الوحدة الوطنية. إذ أنّنا لا ننسى أنّ فرنسوا هولاند وحكومته قد أقحموا البلاد في حروب عديدة وعلى واجهات متعدّدة، في مالي وفي الساحل الإفريقي، وانضمّوا إلى تحالفات عدوانية كما في العراق. إنّ مصير هذه الحروب ليس الفشل فقط ـ فيكفي النظر إلى ما يجري في العراق وأفغانستان ـ بل إنّها فسحت المجال للمجموعات الإرهابية لتعزيز نفسها بالمقاتلين والأنصار. لهذا السبب بالذات ما فتئ حزبنا وعديد القوى الأخرى يندّد بسياسة الحرب التي أدّت في حالات عديدة إلى ربط علاقات مع قوى رجعية ودعمها تطبيقا لمقولة تصادم الحضارات.
لهذه الأسباب فإننا نرفض الوحدة الوطنية مع قوى يمينية تقبل وضع يدها في يد حزب “الجبهة الوطنية”، ونعتبر أنّ الوحدة الوطنية التي نحن في حاجة إليها في هذا الظرف بالذات هي الوحدة ضدّ سياسات الحرب والتفقير ومن أجل التضامن والصداقة بين الشعوب. إنّ الوحدة التي نناضل من أجلها هي وحدة الطبقة العاملة والشعب حول مصالحهما ومصالح الشعوب عامّة. إنّها الوحدة في النضال من أجل التقدّم الاجتماعي والديمقراطية”