بقلم علي الجلّولي
العدالة الانتقالية هي مجمل الإجراءات في مختلف المجالات التي من شأنها تفكيك منظومة الدكتاتورية وعلى أنقاضها تأسيس الديمقراطية والحرية والعدالة، فمن المعروف أن نظام الاستبداد هو منظومة شاملة ارتبطت بنظام اقتصادي قائم على النهب والتبعية والاضطهاد، وعلى نظام اجتماعي قائم على الفساد والاستغلال والتفاوت المريع بين الطبقات والفئات والجهات، وعلى نظام سياسي يتسم بالقمع والقهر. وتتّسع رقعة المتضرّرين من مثل هذه النّظم لتشمل الأغلبية الساحقة من الشعب.
ولقد اختزلت الدكتاتورية الدستوريّة جملة هذه السّمات، ممّا جعل من العدالة الانتقالية مطلبا شعبيّا منذ اللحظات الأولى لسقوط الطاغية وذلك بهدف خلق الإطار الأسلم لسدّ الباب أمام عودة النظام القديم خيارات وسياسات ورموزا. وقد أقضّ هذا المطلب مضاجع رموز نظام الاستبداد. لذلك تعرّض لمحاولات لازالت متواصلة للتصفية والشطب مثل كل مطالب الثورة.
الرجعية تريد تصفية العدالة الانتقالية
كان ملف العدالة الانتقالية من الملفات الحارقة التي طرحت على طاولة المجلس التأسيسي وقد أفردته حكومة حركة النهضة بوزارة خاصة به، وكان ذلك بمثابة الضربة الأولى لهذا الاستحقاق الذي أفرغته وزارة «سمير ديلو» من مضمونه الثوري، حيث انحصر الجدل حول التعويضات عن سنوات السجن والغربة وتشغيل سجناء الرأي والسجناء السياسيين السابقين (خاصة من أنصار حركة النهضة والمجموعات الإرهابية). ولم يتم إصدار قانون العدالة الانتقالية إلاّ بعد ضغط كبير من المجتمع المدني. ورغم تمرير القانون وبعث «هيئة الحقيقة والكرامة»، التي احتكمت إلى منطق المحاصصة الحزبية والتي كان من مظاهرها الأولى انسحاب عضوين من أصل أعضائها الخمس عشر، فإن التّعطّل لازال سمة المسار الذي كان في المدة الفارطة مجالا للتجاذب الانتخابي والسياسي.
مسار العدالة الانتقالية وخطر الإلغاء
تعتبر الهيئة الحالية نتاجا لموازين القوى الحزبية التي كانت سائدة في المجلس التأسيسي، وهو ما حكم على نشاط الهيئة بالانتظارية والترقّب عوض الشروع في مباشرة هذا الملف المعقّد الذي يمسح قرابة الستة عقود من عمر شعبنا. وتعتبر حادثة محاولة نقل الأرشيف الرئاسي أول ظهور بارز للهيئة ولرئيستها، وهي حادثة تتجاوز البعد الفني/التقني للموضوع إذ أراد البعض تقديمه على أساس كونه خلافا حول شروط نقل الأرشيف الرئاسي في شاحنات إلى مقر الهيئة ساعات فقط قبل مغادرة منصف المرزوقي للقصر الرئاسي. إن الموضوع سياسي بامتياز، والعلاقة بين الهيئة والترويكا واضحة للعموم، والترويكا لما كانت في الحكم كانت تريد استعمال الملف برمّته للمقايضة السياسية (مع رموز النظام القديم)، ولما تأكدت من مغادرة كرسي الحكم بعد الانتخابات التشريعية وخاصة بعد الدور الثاني للرئاسية بدأت في الضغط على «خصمها» الذي أخذ مكانها، علما وأن هذا «الخصم» معني بالملف بحكم انحدار أغلبيته الظاهرة والخفية من تجربة الحكم السابق. لقد كانت حادثة الأرشيف إيذانا ببدء حالة تجاذب رد عليها حزب النداء بتنظيم حملة إعلامية ركزت على أن الأغلبية الجديدة في مجلس نواب الشعب ستراجع بعض فصول قانون العدالة الانتقالية وأيضا تركيبة الهيئة وأساسا إقالة وتعويض رئيستها سهام بن سدرين. تزامن هذا الجدل مع إطلاق «مبادرة» بمقالات غير ممضاة في بعض الصحف (أنظر مثلا جريدة الشروق -4جانفي 2015) حول تنظيم مؤتمر للمصالحة الوطنية الشاملة في شهر أفريل القادم، وطبعا المقصود بالمصالحة هو التخلي عن المساءلة والمحاسبة وحصر العدالة الانتقالية في بعض التعويضات المادية و»عفا الله عما سلف». الوضع اليوم ينذر بتعطل للمسار المعطل أصلا، والترويكا وتحديدا حركة النهضة تتحمل كامل المسؤولية السياسية والأخلاقية في تعطيله بتعلات مختلفة، وطبعا سيواصل الحكّام الجدد تعطيله وربما العمل على شطبه و قبره إلى الأبد. وهاهي الهيئة تباشر النظر في الموضوع بعمل استنزافي يتمثل في جمع الملفات الفردية التي ستأخذ عاما من الزمن على الأقل، في حين أن جل حالات الانتهاك (أو لنقل أهمها) موجودة في ملفات مؤسسات الدولة والمنظمات المدنية والأحزاب والنقابات والصحافة…، كان من الممكن اختصار هذه الآجال والشروع مباشرة في مسار البحث والمساءلة ثم المحاسبة عبر الإحالة على القضاء، كل ذلك في إطار علني وشفاف، مع ضمان حق الأفراد في التظلم. إن القضية لا يجب أن تعالج كانتهاكات فردية فحسب بل هي تركة نظام كامل اضطهد شعبا بأغلبية طبقاته وأفراده وجهاته. والمسار مهدّد اليوم بالتمييع والتصفية بحكم التجاذب «الحزبوي» المسلّط عليه، ومن أخطر السيناريوهات هو فكرة مؤتمر المصالحة الذي يريد قتل المشروع في المهد بداعي المصلحة الوطنية. إن هذه المخاطر تفرض على الثوريين المتماسكين وعلى فعاليات المجتمع المدني تنظيم التدخل لتصحيح المسار والشروع الفعلي في معالجة تركة الدكتاتورية وعلى أنقاضها بناء الديمقراطية الفعلية.
إنقاذ المسار مازال ممكنا
أول خطوة مطلوبة من «هيئة الحقيقة والكرامة» هي الحرص على التكريس الفعلي لاستقلالية المسار واستقلالية أطره وهياكله خاصة وأن الهيئة تستعد لبعث فروعها الجهوية، فالاستقلالية والتشبّع الفعلي بأهداف المسار هي ضمانات التحّرر من التجاذبات الظرفية والحسابات الخاصّة. إنّ القوى الحيّة مطالبة بممارسة كل أشكال الضغط من أجل انطلاق المسار ونجاحه، الضغط على الهيئة حتى تكون مستقلة فعلا، والضغط على كل الجهات المعنية بالموضوع حتى لا تعطّله عبر تمكينها من نسخ من كل الأرشيفات ذات الصلة التي تسهّل عملها، والأرشيف الرئاسي هو جزء من هذا الجهد في جانبه المتعلق بالموضوع، إضافة إلى أرشيفات الوزارات والإدارات وفروع الأجهزة الأمنية والعسكرية والدبلوماسية والحزبية والمنظماتية ذات الصلة، وملف الأرشيف يجب التعاطي معه بشكل سياسي وقانوني وفني صحيح، علما وأن القناعة عميقة لدينا ولدى عديد الأطراف النزيهة كونه تعرّض ولازال للتلاعب وإتلاف أجزاء منه، والأهم من الأرشيف هو وجود عدد هائل من قدماء المسؤولين السياسييّن والأمنيين والإداريين الذين يجب دعوتهم وجوبا للمساءلة بمقتضى المسؤولية السياسية على جرائم نظام كانوا رجالاته، والإحالة على المحاسبة وفقا للأدوار الشخصية في الانتهاكات التي طالت أفرادا أو جهات أو فئات. يجب إرفاق هذا الجهد بفعاليات وتظاهرات سياسية ومدنية جماهيرية ونشيطة، وعلى شعبنا وقواه التقدمية إيلاء هذا الملف ما يستحق من عناية، يجب أن لا يكون هذا الملف محلّ اهتمام بعض المنظمات وبعض قدماء المساجين وأسر الشهداء والجرحى فقط ، بل يجب أن يتحول إلى مطلب شعبي لأنه يتعلق بصفحة طويلة من تاريخ بلادنا وجب تدقيق النظر فيها لإعادة الحقوق لأصحابها ومحاسبة من أجرم في حقهم ومن ثمة غلق الباب نهائيا أمام عودة الاستبداد بتأسيس دولة الحق والقانون والمواطنة كاستحقاق ثوري تريد جحافل الثورة المضادة وَأْده لمواصلة السيطرة والتحكم في البلاد وشعبها، وما تشكّل الرئاسات الثلاث من رموز العهود البائدة إلا إشارة لما ينتظر شعبنا من إمكانية فعلية للعودة من الشباك لمن أطردهم الثورة ورفضتهم، حينها سيُقبر ملف العدالة الانتقالية كما حدث في عديد البلدان، إذ لا يعقل أن تبنى الديمقراطية بأذرع كانت لعقود رافعة للدكتاتورية والنهب والقهر.