أثارت مسألة وحدة الجبهة الشعبية الكثير من الجدل في الصّحافة ووسائل الإعلام السمعية-البصرية وإسهاما في التفاعل مع هذا الجدل القائم، نودّ العودة بأكثر تركيز إلى هاته المسألة المتعلقة بمدى وحدة الجبهة الشعبية وقدرتها على ضمان تماسك سياساتها ووحدة ممارستها، رغم كلّ الهزّات التي مرّت بها منذ تأسيسها في السابع من أكتوبر 2012. فرغم كثافة الحديث عن المسارالذي انتهجته الجبهة الشعبية، منذ بروزها إلى الوجود، فإنّ بعض الجوانب بقيت دون إنارة كافية وفي حاجة إلى مزيد التدقيق والتعميق، إذا نظرنا إليها من زاوية الأرضية التي تأسّست الجبهة على قاعدتها ومن زاوية برنامجها العام وطريقة إدارة النقاشات وبلورة المواقف داخل مختلف هيئاتها.
لقد تربّت جلّ مكوّنات الجبهة الشعبية على مقاومة الاستبداد منذ الستينيات في الفضاءات الثقافية والنقابية والديمقراطية والسياسية، العلنية منها والسرية، مستندة في ذلك إلى تراث فكري نيّر وتقدمي وذات أفق وطني وقومي وأممي جعلها تساير حركة التاريخ ولا تسير ضدّها أو ترتدّ عليها، كما تجلّى ذلك في قدرة قوى الجبهة على التموقع ضمن المسار الثوري والدفع به إلى الأمام وفعلا فقد استماتت الجبهة في الدفاع عن استحقاقات الثورة والتصدّي لكلّ مظاهر الثورة المضادة وهو ما سمح بخلق أوضاع ثورية دفعت بكلّ أطرافها إلى القبول أكثر فأكثر بالعمل جنبا إلى جنب، خصوصا بعدما خبرت تردد أطياف سياسية عديدة كانت في القريب سندا للسلطة القائمة وأطياف أخرى تسعى إلى الاستيلاء عليها وفرض مشروعها الآخذ في التخلف والتبعية وإلى مقاومة حنين العودة إلى الاستبداد القديم من ناحية ومشروع الاستبداد الإخواني الناشئ من ناحية أخرى، هاتان المنظومتان اللتان تعملان على تأبيد نهج التبعية والرّضوخ لإملاءات الدّوائر المالية العالمية والمحاور السياسية، الأوربية منها والخليجية.
بين هذا الاستقطاب وذاك، لم يكن أمام الجبهة الشعبية إلاّ خيار التعبئة الشعبية ومقاومة بوادر الثورة المضادّة التي بدأت تبرز بكلّ تلويناتها. لقد ساهم هذا التوجّه في تعميق التجربة الميدانية للجبهة وتطوير جاهزيتها التنظيمية والسياسية، التي ما تزال دون المأمول طبعا، مستندة في ذلك على مرجعيتها الفكرية الثابتة ومسلّحة ببرنامج سياسي وطني وديمقراطي واقعي يرسم الآفاق الاستراتيجية والتكتيكية للمسار الثوري حتى لا تظل الثورة “حلما غامضا” وحتى لا تختلط السبل أمام الشعب التونسي ويسقط في الإحباط من جديد وتضيع منه ثورته. وفي هذا الإطار يتنزّل مشروع الميزانية البديل الذي أعدّه فريق من خبراء الجبهة والذي يقطع في جوهره مع سياسة التداين والخصخصة ويعيد الاعتبار لدور القطاع العام في التنمية المحلية والجهوية ويقطع مع نظام الجباية المجحف في حق الشرائح الوسطى والسفلى خصوصا، ويمهّد لبناء اقتصاد اجتماعي تضامني. فعلى خلفية هذا التوجه فحسب حددت الجبهة الشعبية أنصارها وخصومها وساهمت في تنظيم تحركات مشتركة مع الاتحاد من أجل تونس لترحيل حكومة الفشل، حكومة علي العريض وتمكّنت من تصليب عودها أكثر فأكثر ومهّدت بذلك الطريق إلى إمكانية توسيع قاعدتها في اتّجاه المستقلين والمجتمع المدني والفنانين والجامعيين…، الشيء الذي خلق حالة تعبئة هامة لصالح مرشّحي الجبهة للانتخابات التشريعية ثم لصالح مرشّحها في الانتخابات الرئاسية، المناضل حمة الهمامي، في مرحلة ثانية.
وبالإضافة إلى الرّصيد الفكري النيّر والتقدمي، الذي تشترك فيه جميع مكوّنات الجبهة، والجاهزية التنظيمية المطلوبة في هذا الظرف الدقيق من زمن الثورة، نجحت الجبهة في إدارة الخلافات بين مكوّناتها بشكل ديمقراطي، حيث أصبحت قادرة على التمييز بين الخلافات الثانوية والخلافات الرئيسية والحسم فيها بالرجوع إلى برنامجها السياسي وعلى الفصل بين ما هو مبدئي وما هو تقديري، رغم ثقل الضغوط المسلّطة عليها باستمرار قصد ابتزازها والزجّ بها في معارك لا مصلحة للشعب فيها. فبمثل هذه المواصفات وهذا التعاطي تمكّنت الجبهة الشعبية من الحفاظ على وحدتها والضغط على كلّ حكومات ما بعد الثورة لضمان تلازم المسار الثوري والمسار الانتقالي، كشرط أساسي، يستحيل دونه استكمال مهام الثورة وإخراج البلاد من أزمتها العميقة والمرشحة للتفاقم إذا لم تحسم مسألة الحكم باستبعاد رموز النظام القديم الذي ثار ضده الشعب التونسي، ورموز الفشل التي أتت بها حكومات “الترويكا”.
وفي نهاية التحليل، يمكن القول بأنّ مسألة وحدة الجبهة الشعبية تبقى مرتبطة بقدرتها على الالتزام بالشعار المركزي لثورة الحرية والكرامة ” شغل، حرية، كرامة وطنية” وبقدرتها على حسم مسألة الحكم وفق المطامح الاجتماعية والاقتصادية لأوسع شرائح الشعب التونسي ووفق المصلحة الوطنية للبلاد بشكل عام، خصوصا وأنها أصبحت، اليوم، تشكّل طرفا مميّزا داخل مجلس نوّاب الشعب وتتمتّع بحضور سياسي فعلي داخل البلاد وخارجها ولدى الرأي العام الوطني والعالمي، من منظمات عمالية وحقوقية وأحزاب ديمقراطية وتقدّمية ويساريّة.
أحمد المولهي (جامعي ومناضل بالجبهة الشعبيّة)