ورد بجريدة “صوت الشّعب” في عددها 161 بتاريخ 30 جانفي 2015:
انقضى قرابة شهر منذ تكليف السيد الحبيب الصيد بتكوين حكومة جديدة. وقد تفاجأ جلّ السياسيّين والملاحظين عند الإعلان أخيرا عن تركيبتها التي غلبت عليها الضبابية السياسية أسماء وبرنامجا في ظلّ وضع اقتصادي واجتماعي صعب يطرح تحديات مهمّة على الحكومة وعلى البلاد.
أوّلا – لقد بيّنت المنهجية المتبعة إلى حد الآن لتكوين الحكومة الجديدة أنّ الصيد لا يملك قرارا مستقلا وهذا طبيعي باعتباره معيّنا من حزب لا ينتمي له ولا سلطة له عليه.
كما بيّنت نفس المنهجية أنّ القرار السياسي الحكومي والحزبي للنداء بات في قصر قرطاج وهذا يمثّل إلى حدّ ما تحويلا لوجهة ومقاصد دستور 2014. ذلك أنّ هذا الدستور أراد خلق سلطة تنفيذية برأسين (رئيس الجمهورية بمهام محدودة ورئيس الحكومة كمسؤول أوّل عن السياسة العامة بالبلاد) غير أنّ المشاهد الأولى لتكوين الحكومة تبيّن أنّ رئيس الدولة قد يستحوذ على كامل الصلاحيات بصورة غير مباشرة وبهذه الصورة لا يكون رئيس الحكومة إلاّ مجرّد منفّذ لأوامر رئيس الجمهورية.
وقد بيّنت المنهجية المتبعة لتكوين الحكومة الجديدة أيضا أنّ المسؤولين على هذه العملية لا يختلفون في رؤيتهم على المستوى الشكلي – على الأقل- عمّا كان يقوم به بن علي عند تكوين حكوماته. فرئيس الحكومة المعيّن لم يكلّف نفسه مناقشة برنامج الحكومة مع الأطراف الحزبية المعنيّة بالمشاركة في الحكومة بل لم يوضّح إلى آخر لحظة – قبل الإعلان عن الحكومة – عن الأطراف المدعوّة للمشاركة فيها.
وقد قام رئيس الحكومة المكلّف باختيار شخصيات من مشارب فكرية وسياسية مختلفة لا رابط بينها. لنجد بالتالي الغث والسمين في هذه التشكيلة المقترحة. كما اعتمد كما بن علي سابقا على عناصر تعمل بالإدارة ولا رؤية سياسية لها غير أنها تتميز بالطاعة وتنفيذ الأوامر دون نقاش وهو ما دفعني إلى القول تفكّها بأنّ حكومة الصيد المقترحة مثل سفينة نوح نجد فيها من كلّ صنف من الدساترة والتجمعيين إلى الاسلاميين النهضاويين وبعض من المحسوبين على اليسار.
ويمكن تلخيص ما توصّل إليه الصيد لتكوين حكومته بأوامر من قصر قرطاج بالضبابية المطلقة وهو ما جعله يفشل في إيجاد أغلبية برلمانية لمساندة الحكومة ويؤجّل في النهاية عرضها على مجلس النواب خلال هذا الأسبوع ويقوم بإدخال تعديلات على حكومة لم تولد بعد وهو أمر غريب فعلا ويدلّ على أنّ اختيار شخص فاقد للقرار السياسي ولقوة الشخصية يؤدّي ضرورة إلى تكوين حكومة تتكوّن من شخصيات مطيعة لا لون لها ولا طعم وهو أمر مقصود يُراد منه أن تكون الحكومة على مقاس رئيس الجمهورية الذي يحاول تكرار مثله الأعلى بورقيبة (لكن بشكل سيّئ) ممّا يؤكّد أنّ الحكومة المقبلة لن تكون قادرة على القيام بإصلاحات جزئية تُذكر فما بالك بالإصلاحات الجوهرية الهيكلية.
ثانيا – وهو ما يجرّنا إلى الحديث عن التحديات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة الجديدة. لكن قبل ذلك لا بد أن نلاحظ أنّ المسألة الأمنية تطرح نفسها بحدة فلا سياسة ناجحة ولا تنمية ولا حلول للمسائل الاقتصادية والاجتماعية دون معالجة المسألة الأمنية معالجة عميقة وشاملة وهو أوّل تحدّ يُطرح على الحكومة الجديدة.
ونقصد بالمعالجة العميقة والشاملة الرّجوع إلى جذور المشكلة وأسبابها وأعني المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية. فمعالجة الإرهاب الذي تمارسه بعض المجموعات المتطرّفة يأتي على رأس المسائل الأمنية. لكن هذه المعالجة وحدها لن تؤدي إلى النتائج المرجوة دون توفير الحلول الملائمة للمشاكل الاقتصادية وخاصة تشغيل الشباب العاطل. ويجب حلّ الإشكاليات الاجتماعية المتعلقة بالصحة والسكن والتعليم… كما يجب مراجعة برامجنا التعليمية ونشر ثقافة جديدة ديمقراطية وتقدمية متفتّحة على الثقافات الأخرى.
ثالثا – بالنّسبة للتحديات الاقتصادية نجد على رأسها موضوع الاستثمار لتطوير الثروة الوطنية وتوفير الشغل ودفع الاستهلاك لنصل إلى مسألة التمويل ومعضلة التّداين الخارجي.
ونتساءل هل يمكن لحكومة الصيد المرتقبة بالشكل والتركيبة التي تعرّضنا إليها أن تدفع الاستثمار الذي يمثّل الحل الأساسي للخروج من واقع الأزمة الاقتصادية الشديدة؟ لا نعتقد ذلك لعدة أسباب أهمّها غياب الرؤية التنموية ضمن ما يشبه البرنامج الذي عرضه الصّيد على الأحزاب.
ويبدو أنّ الحكومة المرتقبة ستعترضها مشكلة كبيرة فيما يتعلق بالتمويل لأنّ باب الاقتراض الخارجي يبدو صعب الولوج أو في أحسن الحالات باهظ الثمن ولأنّ برنامج الإصلاح الجبائي الذي يمكن أن يكون البديل للتداين الخارجي غير واضح المعالم ولا نتصوّر أنّ التركيبة الحكومية القادمة لها القدرة على وضع الحلول الضرورية اللاّزمة والموجعة لبعض الأطراف في نفس الوقت.
وإذا لم تتمكن الحكومة الجديدة من حل إشكاليات الاستثمار والتمويل والجباية فإنها من الأكيد ستعجز عن حلّ معضلة التّشغيل التي ما فتئت تتفاقم خاصة بالنسبة لأصحاب الشهادات العليا.
رابعا – وبخصوص التّحديات الاجتماعية يمكن أن نلاحظ أنّ مسألتي غلاء الأسعار والتضخم تمثّلان مشكلتين مهمّتين ولا نرى كيف يمكن للحكومة المقتَرَحة مواجهتها في ظلّ فوضى الأسواق وفي حين لم يتم التعرّض ضمن ميزانية الدولة لسنة 2015 لإمكانية توفير الإمكانات الضرورية (ماديا وبشريا) لمراقبة الأسواق ومسالك التوزيع والتجارة الموازية والتّهريب.
ولعل من أهم الإشكاليات المطروحة على الحكومة الجديدة مسألة صندوق التعويض وإمكانية مواصلة سياسة رفع الدّعم بالرغم من تطوّرات السّوق العالمية فيما يخصّ مادّتي النفط والحبوب.
كما يمكن أن نضيف للتحديات المطروحة على الحكومة الجديدة مسألة الصناديق الاجتماعية التي أصبحت وضعيّتها المالية محيّرة لأسباب عديدة هيكلية وبارتباط بالتسيير وهي مسألة تتطلّب حلولا عاجلة ولكن في العمق لأنها لن تكون مفاجأة إذا تأخّرت هذه الصناديق عن دفع مستحقات المتقاعدين أو المرضى.
إنّ التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي ستواجهها الحكومة القادمة عديدة (ذكرنا بعضها فقط) وهي تحدّيات جسيمة بعد أربع سنوات من سوء التصرف في المالية العمومية والركود الاقتصادي. لكن الإشكال أنّ الحكومة القادمة لن تكون في مستوى هذه التحديات للأسباب التي ذكرناها سابقا.
إنّ الحكومة المرتقبة مثل سابقاتها يربطها ألف خيط وخيط بالدوائر المالية العالمية الاستعمارية وهي غير قادرة على التنصّل من التزامات الحكومات السابقة ولا تختلف عنها في الرؤية المناهضة لمصالح الطبقات الشعبية لذا ستعمل جاهدة على توفير شروط هذه الدوائر حتى تنال رضاها وتتمكن من بعض الفتات الذي تسدّ به رمق بعض الجشعين.
لكن هذه السياسة لا يمكن لها أن ترضي جماهير شعبنا الذي ثار من أجل التشغيل وتوفير لقمة العيش وضدّ الفساد والاستبداد والذي يطمح إلى غد أفضل. لكن ما أفرزته انتخابات أواخر سنة 2014 لا يستجيب للتطلعات الشعبية وستجد الجماهير الشعبية نفسها مرّة أخرى أمام المغالطة والنّفاق وجيوب تغطية الفساد.
وهنا لا يفوتني أن ألاحظ أنه من واجب الجبهة الشعبية – باعتبارها التعبيرة النظرية على الأقل عن الطموح الشعبي- أن تلعب دورها كاملا وذلك بالوقوف ضدّ السياسة المرتقبة لحكومة النداء وفضح التّوجّهات اللاّوطنية واللاّشعبية وتقديم بديلها الوطني والشعبي.
ولعلّ ما حدث في اليونان أخيرا وانتصار التكتل اليساري “سيريزا” الشبيه برنامجيا وتنظيميا بالجبهة الشعبية يمكن أن يكون حافزا للجبهة الشعبية في تونس. “سيريزا” التي تحصّلت على شبه أغلبية برلمانية في انتخابات 2015 كان نوّابها في البرلمان سنة 2009 لا يتجاوز 13 نائبا.
الأستاذ محمود مطير*