ورد بجريدة “صوت الشّعب” في عددها 161 بتاريخ 30 جانفي 2015:
تحتل انتفاضة 26 جانفي 1978 مكانة مميّزة في الذّاكرة التونسية عموما وفي ذاكرة النقابيين بوجه خاص وذلك لما شهدته تلك الفترة من أحداث خطيرة أظهرت آنذاك الوجه الفاشستي للنظام البورقيبي الذي تسبّب حسب الرواية الرسمية في سقوط 52 قتيلا و365جريحا، فيما تحدّثت تقارير مستقلة عن مقتل ما يزيد عن 400 شخص على رأسهم سعيد قاقي والمناضل حسين الكوكي، وأكثر من 1000جريح علاوة على الإيقافات والتعذيب والمحاكمات والفصل عن العمل. وتعود أيضا هذه المكانة المميزة للانتفاضة لما أظهرته الحركة العمالية والنقابية من قوّة واستماتة في الدفاع عن مطالبها المهنية والمعنوية المشروعة وعلى رأسها الدفاع عن الاسقلالية عن الحزب الحاكم ورفع المطالب الديمقراطية العامة كالعفو التشريعي العام وحرية الإعلام والتعبير والحق في التنمية العادلة.
الأسباب والوقائع:
تعود أسباب الانتفاضة المجيدة إلى أسباب عامة تمثلت في دخول النظام الرأسمالي العالمي في أزمة عامة حادة ابتداء من سنة 1973 انعكست بصورة مضاعفة على بلادنا كغيرها من البلدان ذات الاقتصاديات الضعيفة والتابعة، إذ بدأ نسق النمو في التراجع والتوازنات العامة في الاختلال وعادت نسب التضخم والتّداين والبطالة إلى الارتفاع وتدنّت المقدرة الشرائية وارتفع معدّل الفقر وباتت الفوارق بين الطبقات والجهات وكذلك سوء التصرف في المال العام ظاهرة مثيرة لحالة من التذمّر العام بعد فترة التحسّن الملحوظ طوال النصف الأول من عشرية السبعينات من القرن الماضي.
على الصعيد السياسي شهدت تلك الفترة هيمنة نمط الحكم الفردي ذو الطابع الفاشستي الرافض لأبسط مظاهر الديمقراطية والحريات حيث تمّت مبايعة بورقيبة الرئاسة مدى الحياة وانتصبت المحاكمات المتواترة والجائرة ضد تيارات اليسار الجديد وقمعت بشدة أبسط التحركات الطلابية والشبابية.
أمّا الأسباب المباشرة فقد تسارعت بصورة ملحوظة بعيد المؤتمر 14 للاتحاد العام التونسي للشغل في مارس 1977 من زيارة الحبيب عاشور إلى ليبيا (ماي 1977) إلى الزيادات المشطّة في الأسعار في ربيع وصائفة 1977 التي استتبعت انعقاد الهيئات الإدارية الجهوية والقطاعية المتسارعة وإعلان القيادات النقابية بوضوح رفض سياسة حكومة الهادي نويرة والاستعداد لمواجهتها. وشكّلت الهيئة الإدارية المنعقدة بتاريخ 15 ديسمبر 1977 منعرجها الحاسم، فتكثّفت حركة الإضرابات تحت تأثير الأفواج الجديدة من شباب اليسار الثوري التي دخلت مسرح العمل النقابي لتشمل جميع القطاعات والجهات، وارتسم خط القطيعة بالكشف عن مخطط لاغتيال الأمين العام للاتحاد الحبيب عاشور في نوفمبر 1977 من قبل بعض غلاة حزب الدستور.
أمّا في الجهة المقابلة فكان صراع الأجنحة داخل الحكم على أشدّه: صراع حول كيفية معالجة الأزمة بين “الشق الفاشي” والشق “الأقل فاشية” كما كان يُوصَّف في ذلك الوقت، انتهى بالإقالات والاستقالات والحسم لفائدة الكواسر من أمثال محمد الصياح وعبد الله فرحات وعامر بن عائشة والجنرال المخلوع بن علي القادم آنذاك من المخابرات العسكرية بغاية كسر شوكة الحركة النقابية رأسا، وبذلك فتح المجال على مصراعيه لمرحلة الحسم العنيف: الإضراب العام في 26 جانفي من جانب الاتحاد دفاعا عن استقلالية الحركة النقابية والمطالب المادية والمعنوية للشغالين عموما، والقمع الأسود وارتكاب المجازر ونصب المشانق (المطالبة بالإعدام للحبيب عاشور) باستعمال الجيش والبوليس من قبل الحكومة دفاعا عن المصالح الطبقية للبرجوازية العميلة. وكانت المواجهة الكبرى يوم الخميس الأسود الذي استعرت فيه حملة الاعتقالات العشوائية في صفوف النقابيين ثم انتصبت المحاكم الجائرة لمقاضاتهم (أكثر من 2000 حسب لسان الدفاع في محاكمة سوسة الشهيرة التي أحيل فيها لوحدها 124 نقابيّا وكيلت لهم تهم التآمر على أمن الدولة والعمل على قلب النظام وشملت المحاكمات إلى جانب القيادات النقابية من المكتب التنفيذي (10 سنوات أشغال شاقة)، قيادات من مختلف المستويات والجهات والقطاعات.
والجدير بالذكر أنه فيما كانت حملة التضامن مع الموقوفين على أوسعها في الداخل والخارج (إضرابات تضامنية حتى داخل السجون، كانت ردة فعل حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة الآن) خارج السياق تماما إذ تفصت منها واعتبرتها فتنة وكل فتنة من النار.
الدروس والعبر:
1) إنّ مدبّري مجزرة 26 جانفي 78 شأنهم في ذلك شأن عملية قفصة 80 وانتفاضة الخبز 84 وصولا إلى قتلة شهداء ثورة 14 جانفي 2011 مازالوا يتمتّعون بالحرية كأنّ شيئا لم يكن، إذ لم تطلهم يد المحاسبة ولم يقع تتبّعهم قضائيا، فمتى ستقول العدالة الانتقالية كلمتها وقد مرّت عقود على البعض منهم؟ وإلى متى يكتفي الاتحاد العام التونسي للشغل بإصدار البيانات ويواصل الصمت في حق مناضليه وقياداته النقابية القديمة منها والحديثة؟ وإلى متى يستمر التناسي غير المبرّر وربما غير البريء لمثل هذه الملاحم النضالية التي سطّرتها الطبقة العاملة بدمها وعدم الإحياء النضالي – لا الشكلي – لهذه الذكرى في كافة دور الاتحاد؟ لقد آن الأوان للتحقيق في المجازر وتحديد المسؤوليات وكشف العدد الفعلي لقائمات الضحايا الذين استشهدوا برصاص البوليس والعسكر والميليشيات وإعادة الاعتبار لهم والتعويض لعائلاتهم.
2) كانت انتفاضة 26 جانفي 78 ذات طابع عمالي واضح لأول مرة في تاريخ تونس الحديث، إذ قادت الطبقة العاملة ممثلة في منظمتها النقابية هذا التحرك ولم تدافع على مطالبها المهنية فحسب بل شملت مطالبها قضايا الحريات العامة والفردية وعديد القضايا المتعلقة بنظام الحكم وإدارة شؤون البلاد وبذلك دخلت الطبقة العاملة رسميا معترك الحياة السياسية وأدلت بدلوها في رسم منوال التنمية ونمط الحكم بعد 56 وبرهنت أنها فعلا قوة اجتماعية لها وزنها وبمقدورها منازلة الدولة البرجوازية المجهزة والمسلحة بأدوات القمع. وذاك هو الدرس الثمين الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار اليوم وغدا ولا مجال لإنكار هذا الدور والقفز عليه كما لا مجال لاستصغاره والاستخفاف به وهو ما لم تفهمه بعد قوى الثورة المضادة وعلى رأسها حركة النهضة التي مازالت تسعى إلى تدجين الطبقة العاملة ومنظمتها النقابية من جديد.
دخلت الطبقة العاملة المعركة بكل ثقة واقتدار وتعرّضت إلى مجزرة رهيبة ستظل محفورة في ذاكرتها، لكنها ظلت صامدة وقاومت التدجين والتنصيب وتمسّكت وماتزال باستقلالية قرارها والحال أنها لم تستند وقتئذ إلى تجربة نضال سياسي كاف ولم تكن مسلحة بنظريتها الخصوصية ولا بهيئة أركانها وقيادتها المستقلة إذ عملت تحت قيادة البيروقراطية العاشورية التي أظهرت لا محالة – وبصورة استثنائية – درجة عالية من الجرأة والتصميم للمضي قدما في تبنّي مطالب الحركة النقابية ومسايرة النضال الجماهيري.
3) واليوم في مثل هذا المسار الثوري يجب أن تتسلّح الطبقة العاملة بالبرنامج المباشر لاستكمال أهداف الثورة الديمقراطية الذي تمثله الجبهة الشعبية، لتكون قادرة على فرض بديلها الديمقراطي الشعبي، حتّى لا تكون احتياطيا للبرجوازية الكبيرة سواء في شقها الليبرالي المتوحش أو اليمين الظلامي المستبد خصوصا وأنّ الأوضاع ملائمة لتحقيق تطلّعاتها وعوامل نجاح هذا الرّهان المستقبلي متوفّرة إلى حدّ كبير.
4) إنّ الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدّت إلى انتفاضة 26 جانفي 78 مازالت قائمة إلى يوم الناس، بل واستفحلت وتعمّقت أسباب اليوم لتنضاف إلى أسباب الأمس. وحتى وإن تمكّنت القوى الثورية من تحسين شروط النضال وكسب معركة الحرية السياسية – التي تبقى قابلة للالتفاف عليها – فإنّ الرهان الحقيقي اليوم هو حول المعركة الاجتماعية (الأسعار، التشغيل والبطالة، الجباية والعدالة الاجتماعية ،منوال التنمية…) وهو ما يطرح على القوى الثورية الإعداد الجيّد لها وتعبئة كلّ الطاقات لكسبها. ومن ضمن الشروط الرئيسية لكسب “أم المعارك ” هو إعادة صقل أداتها النقابية – الاتحاد العام التونسي للشغل – الذي تحوّل إلى الدائرة الثانية من دوائر اهتمام النقابيين أنفسهم، علاوة على أنّ الثورة لم تغيّر كثيرا في نمط الوعي السّائد داخله وأسلوب عمله ونوعية هياكله وحياته الداخلية.
إنّ الحركة النقابية التي خاضت معاركة عديدة سلمية حينا وعنيفة أحيانا دفاعا عن شعاراتها المتمثلة أساسا في الاستقلالية والديمقراطية والنضالية مطالبة اليوم في ظل الأوضاع الثورية بالمساهمة الريادية في استكمال مهام الثورة ومن أجل ذلك يتحتم عليها تجديد محتوى ومضمون هذه الشعارات وتعميق مفاهيمها حتى لا تتحول إلى شعارات استهلاكية يتغنّى بها كلّ من هبّ ودبّ حتى أعداء العمل النقابي أنفسهم. صحيح أنّ هامشا هاما من الاستقلالية قد تحقق بفعل الثورة لكن الديمقراطية الحقيقية للعمل النقابي مازالت بعيدة طالما الثورة لم تحقق بعد التحول الديمقراطي المنشود.
الناصر بن رمضان