بقلم: خليفة شوشان
تمرّ سنتان على رحيل المناضل الرمز شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد وأحد أبرز قيادات الجبهة الشعبيّة الذي طالته يد الغدر الإجرامية صبيحة السادس من فيفري 2012. هذا الاغتيال السياسي الذي هزّ ضمير الشعب التونسي والعربي والعالمي ودق ناقوس الخطر الذي مثّل مؤشرا لجملة من التحولات السياسيّة التي دخلت فيها البلاد بعد أن تنبّهت القوى الوطنيّة والديمقراطيّة إلى مرور التحريض والعنف الذي صاحب خطاب الإسلام السياسي والجهادي التكفيري والذي وجد له حاضنة في حكومة الترويكا وحركة النهضة إلى أقصى درجاته الإجرامية بتصفية الخصوم السياسيين. لقد كانت الصدمة التي رافقت اغتيال الشهيد شكري بلعيد في حجم المكانة والدور السياسيين اللذين كان الشهيد يحتله في الساحة السياسيّة والحقوقيّة ولكن لم يمض الزمن طويلا حتى اكتشف الرأي العام مكامن فرادة وتميّز الشهيد على مستوى رؤيته الاستراتيجية الاستشرافيّة التي قادته بمعيّة رفاقه المناضلين إلى تأسيس مشروع الجبهة الشعبيّة الذي جمع لفيفا من الأحزاب التقدميّة اليساريّة الوحدويّة للقطع مع حالة التشتّت التي استفادت منها القوى الرجعيّة وعملت على تأبيدها وتكريسها أمرا واقعا لتضمن هيمنتها على المشهد السياسي وتمرير مشروعها الإخواني المتناقض مع شعارات الثورة ومطالبها الاجتماعية والديمقراطيّة.
وأهمّ من يعتقد أنّ اغتيال الشهيد شكري بلعيد بذلك الشكل الاستعراضي والرمزي، أمام منزله ويوما واحدا بعد ذكرى 05 فيفري المجيدة التي فجّرها جيل الحركة الطلابية التونسية يستهدف شخصا أو تنظيما تماما، كما أنه واهم من يعتقد أنّ اغتيال الشهيد محمد البراهمي بنفس الشكل الاستعراضي والرمزي يومان بعد ذكرى ثورة يوليو المجيدة يستهدف شخصه وتنظيمه، إنّ القضيّة أبعد من أن تختزل في هذا التصوّر السطحي الذي ينتقص من مكانة ودور الشهيدين الذين تجاوزا حدود العمل السياسي الحزبوي وتمردا على الروابط السكتاريّة ووضعا نفسيهما على ذمّة مشروع حضاري ووطني جامع يمثل استجابة لمتطلبات الثورة التونسية ويعمل على قيادتها لتحقيق أهدافها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعيّة.
ولا شك أنّ هذا المشروع الحضاري الجبهاوي الوطني التقدمي الديمقراطي المنفتح على مجاله العربي والإنساني والذي يلحّ على تلازم الديمقراطيّة مع العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني في توليفة ثلاثيّة مترابطة تمثّل السبيل الوحيد لنجاح المسار الثوري، مثّل خطرا على القوى الامبرياليّة المرتبكة تحت وقع التحوّل السياسي المفاجئ في تونس الذي وقع خارج إرادتها والساعية إلى تدجينه وإبقائه تحت سيطرتها معتمدة في ذلك على أدواتها الاقليميّة والمحليّة التي لم تكن ترى في الحراك الثوري التونسي سوى فرصة لإعادة التموقع واقتناص ثمرة السلطة والتربّع على سدّة الحكم واستعدادها غير المشروط للعب دور الوكيل لقوى الهيمنة العالميّة. لذلك لم يكن من الممكن السّماح للنموذج السياسي الجبهاوي أن يستمر وينجح ويلعب دوره في قيادة هذا الحراك، فسارعت هذه القوى عبر وكلائها وعملائها إلى إخماد صوت المناضل الفذ شكري بلعيد والمقاتل الصلب الحاج محمد براهمي لإجهاض هذا المشروع وتركيعه ووأده في المهد.
غير أنّ هذا الحدث الفارق لم يكن لحظة إجهاض للمشروع بقدر ما كان تحديا غير منتظر وضع الجبهة الشعبيّة أمام امتحان صعب وقاس كان في مستوى الاستجابة له باقتناص اللحظة وتحويلها إلى وثبة نوعيّة كرّست وحدة مكوّناتها وجذّرتها أكثر صلب مجتمعها، وحفّزتها على مزيد التموقع خطابا وفعلا داخل المشهد السياسي.
لقد تمكّنت الجبهة الشعبيّة بفضل قادتها ورموزها الشهداء والأحياء ومناضليها الماسكين على الجمر ورغم كلّ المؤامرات والتشويه والهرسلة من تجاوز أصعب الامتحانات وحققت شروط بقائها وتموقعها السياسي الجيّد بنجاحها في الوصول إلى مجلس النواب بخمسة عشر نائبا فرضوا خلال مدتهم النيابية القصيرة الاحترام السياسي وأسّسوا لمعارضة برلمانيّة جادة سيكون من الصعب تجاوزها رغم سعي ائتلاف اليمين الليبرالي عبر خطاب “الوحدة الوطنيّة الوهميّ” إلى عزلها وتقزيم دورها تغييبا لدور أي قوّة معارضة مستقبلا، كما نجحت الجبهة الشعبيّة في كسر العازل الشعبي الذي سعت حكومات اليمين المتعاقبة إلى فرضه بينها وبين امتدادها الطبيعي وقدمت ناطقها الرسمي كمرشح جاد للانتخابات الرئاسيّة حاز على ثقة أكثر من ربع مليون صوت رغم المال السياسي والتوجيه الإعلامي والفيتو الدولي.
مع حلول الذكرى الثانية لاغتيال القائد الرمز شكري بلعيد يصل الفرز السياسي أقصاها ويعود الصراع إلى طبيعته بين القوى اليمينية المتحالفة وبين القوى التقدمية الاجتماعية والنقابية وفي مقدّمتها الجبهة الشعبيّة التي تجد نفسها أمام استحقاقات سياسيّة ومعارك نضالية قادمة تتطلب منها مزيد الوحدة والامتداد الشعبي وبناء مؤسساتها التنظيميّة.