حجرة الصمت..للمخرج الافغاني عتيق رحيمي عرض اليوم السبت 14 فيفري 2015 بنادي سينما تونس….
عشية اليوم السبت توجهت كالعادة صحبة منيرة لدار الثقافة ابن خلدون لحضور عرض نادي سينما تونس و هذه المرة ضمن تظاهرة ..تذكرة الى المسكوت عنه في السينما..لمشاهدة فيلم حجرة الصبر للمخرج الافغاني عتيق رحيمي..
كانت امسية شيقة شاهدنا فيها فيلما و لا اروع و حضرنا نقاشا ثريا الم بجزئيات الفيلم و طرح العديد من الاسالة…
ماذا يمكن لزوجة عاجزة ووحيدة أن تفعل بزوجها المصاب بطلقة نارية استقرت في رقبته، وجعلته مشلولا وفي شبه غيبوبة، وغير قادر على الحركة والكلام أو إبداء أية ردة فعل تجاه ما يدور حوله ؟ وكيف يمكن لهذه الزوجة المسؤولة عن طفلتيها البريئتين أن تبقي زوجها في منتصف الطريق بين الحياة والموت، وبين الإحساس اليقظ والصمت المطلق، كي يشعرها على الأقل بالأمان وبوجود طيف أو ظل لرجل في بلد مثل أفغانستان المبتلية بالخراب والقتل والفوضى والفقر، وسط حرب مستعرة تكاد لا تنتهي؟.
هذه الأسئلة الشائكة والمسوّرة بحالات إنسانية مكبّلة ومتأزمة حد الاختناق، يتناولها الروائي والمخرج الأفغاني المقيم في فرنسا عتيق رحيمي (مواليد 1962) من خلال فيلمه “حجر الصبر”
المناظر السينمائية للفيلم الذي صورت مشاهده بالكامل في المغرب.
الفيلم هو العمل الثاني لعتيق رحيمي، الكاتب الأفغاني الذي يستوحي أعماله الأدبية من أجواء الفوضي السياسية ودمار الحرب الأفغانية في كتاباته. وقد أخرج رحيمي فيلمه الأول “أرض ورماد” عن رواية له بالعنوان نفسه عام 2004. رحيمي غادر إيران عام 1984 بعد دخول القوات السوفيتية إلى أراضي بلاده، ولجأ إلى فرنسا التي يقيم بها حتى اليوم شأنه في هذا شأن بطلته فرحاني التي غادرت إيران إلى فرنسا.
اعتمد رحيمي في نسج خيوط الرواية والفيلم على حكاية شعبية شفهية متداولة في أفغانستان وإيران : “سنك صبور” بالفارسية أو “حجر الصبر” وهي خرافة متناقلة عبر أزمنة بعيدة عن امرأة وحيدة ومعزولة ومحتشدة بالاعترافات والأسرار، لا تجد أمامها غير حصاة كبيرة كي تنفّس وتنفث فيها آلامها وأحلامها وحكايتها ومروياتها الحبيسة والمحظورة التي لا تستطيع أن تحكيها للبشر، حيث تظل الصخرة تستمع وتمتص وتتشبع بكلمات المرأة، حتى تتصدع وتنفجر في لحظة مدوية بعد أن تنتهي المرأة من آخر كلمة كانت حبيسة في صدرها، ما يمثل في النهاية خلاصا للاثنين من قول فائض ومسترسل حد الارتياح، ومن استماع حاضن ومكتمل حد التهشّم. …
الفيلم يؤرخ للحقبة التي هيمنت فيها حركة طالبان على افغانستان، استثمر فيها رحيمي خبراته في تقنيات السينما من خلال تصوير لقطات مشهدية بلغة مختزلة ومكثفة رصدت فيها كاميرته الحركة والصمت، وضوضاء المعارك، لم تحتشد الرواية بالشخصيات، انما اقتصرت على الرجل الراقد وزوجته الشابة الوسيمة وطفلتيها الصغيرتين، لتسجل (مونولوغ) الزوجة الطويل التي كرست نفسها للاهتمام بشؤون الرجل المشلول امامها وهي تحصي انفاسه على ايقاع حبات مسبحتها، وتتكلم، تتكلم بحرية لأول مرة امام زوجها او شبح الرجل الممدد امامها (كحجر الصبر) والذي قمعها طيلة عشرة اعوام مدة زواجهما، كبت صوتها ومشاعرها، وانتهك شخصيتها، مجبراً اياها على الرضوخ والصمت من اجل ارضاء رجولته التي لا يرى اكتمالها الا في اضطهاد زوجته! ورغم انها تتمنى له الشفاء، لكنها في ذات الوقت توجه احتقارها له لأن المرأة لا قيمة لها عنده، لا قيمة لها في مجتمع التحرم والتزمت، اذ لا يتوانى فيه الأب عن بيع بناته، والزوج ترك زوجته، وزوجها هذا تركها امام صورته المعلقة على الجدار ولم يلتق بها الا بعد ثلاث سنوات من الزواج بعد انخراطه في صفوف المسلحين، في (حفلة الزواج، كنت انت حاضراً من خلال صورتك وخنجرك الذي وضعوه الى جانبي بمكانك! وعند ذاك كان علي ان انتظرك ثلاث سنوات، وفي الليل انام مع امك لتحرس عفتي).
وبعد ان صلت كثيراً لأجله وسبحت، تتخلى اخيراً عن صلاتها، لتكلمه، تروي له عن حياتها معه حياتها المتخمة بالصمت والمعاناة (أنت لم تصغ الي أبداً، ولم تسمعني ابداً، نحن لن نتكلم، ولم نعش)، يا حجر الصبر، وحجر الصبر هذا كما تقول الاسطورة الافغانية، حجر سحري مؤتمن، يضعه المرء أمامه ويعترف اليه بما لا يجرؤ على الاعتراف به الى احد، والحجر يصغي، يتشرب الكلمات والاسرار وعندما يصل الى حد الاشباع يتفجر، عنذاك يتحرر المرء من آلامه ويشفى، تقول (وأنت يا حجر صبري سأقول لك كل شيء، كل شيء) وقد وجدت الجرأة على البوح بكل ما يعتمل في اعماقها، لأنه اي زوجها الان جثة حية تتنفس فقط، ربما يسمع لكنه عاجز عن الحركة، ولولا ذلك لكان قد اخرسها، فهو يتورع من تهشيم رأسها بقبضته.
الزوجة وهي تتحدث كأنها تبحث عن نفسها كانسانة وانثى، تتحدث بصوت النساء المكبوت، وبالرغم من صخب القتال، وتدخل الجماعات المسلحة المتشددة في سلوكيات الناس واعتقاداتهم، وسيادة قيم التحريم، الا انها تشعر في داخلها بارادة قوية، وفي اعماقها يفيض توق وحنين الى الحياة التي ضاق فضاؤها بتفشي ثقافة القتل، تحس انها نزعت مخاوفها، ولم تعد تواري مشاعرها التي يكمن فيها قهر طويل لصبوات روحها المتطلعة لأشياء لا حصر لها، الى الحد الذي نراها قد تجرأت فيه في اللقطات الاخيرة من الفيلم بتلبية طلب الصبي المسلح للسماح له للنوم معها بغرفة مجاورة لغرفة زوجها، الصبي العفوي المتعتع في كلماته، صار له حضور مقبول عندها، وهو يذكرها بماضيها ومستهل شبابها، كانت تروي وهي تمعن بعيداً في بوح شاعري اتقنه المؤلف..المخرج، اعترافات، ورغبات، شذرات متباينة نسجتها فصول حكاية طويلة امام زوجها الصامت حجر صبرها الذي ربما يسمع ويتشرب كلماتها، لعله يتفجر بها، فتشفى، وتتخلص من عذاباتها.. والمرأة عبر اعترافها بتاريخها الشخصي فهو يشبه على نحو ما تاريخ افغانستان الغارق بالدم والجهل والسلاح والموت.
يقول عتيق رحيمي..في «حجرة الصبر». في الكتاب تتكلم المرأة وتتكلم… في الشريط كذلك، إلا أن الأكثر أهمية هنا كان هو تصوير الكلمة كفعل.
البعض يصورون الحرب ولأجل ذلك يصورون الرصاص الذي ينطلق من كل الجهات؛ أما أنا، فأصور الكلمة. كل حركات الكاميرا تتم بناء على كلمات، بطريقة كوريغرافية. كنت اطلب من المكلف بالكاميرا أن يحركها مع هذه الكلمة، أن يتوقف عند نقطة النص هذه.
الحركة هنا هي الكلمات. الكلمات هي التي تغير الشخصية في الشريط.
وهنا تحدث أشياء كثيرة. ليست الحركة حركة الخارج، بل حركة ما يجري بداخلنا. ففي أعماقنا، حركات كثيرة. إننا نسافر كثيرا بفضل أفكارنا، بفضل أحلامنا، بفضل متخيلنا. توجد في هذا الحيز حركات أكثر من تلك الموجودة في حياتنا الفيزيقية. إننا نمشي، ننتقل من نقطة إلى أخرى، في أذهاننا، نسافر كثيرا وهذا هو الرائع…
و يذكر ايضا ان الممثل والسيناريست الفرنسي جان ـ كلود كاريير شارك في كتابة النصّ السينمائي مع رحيمي،و يذكر ايضا ان الفيلم متأثّر بفيلمي «ألمانيا السنة صفر» (1948) لروبيرتو روسّيليني، و«صرخات وهمسات» (1972) لإنغمار برغمان: «الأمكنة الداخلية مع هذه العائلة المكدّسة في غرفة صغيرة: الأب المحبوس، الشقيق المُطارَد، وخصوصاً الصبيّ التائه وسط هذا كلّه، تماماً كبطلة الفيلم. مخطّطات الشوارع المدمَّرة كلّها في كابول مستوحاة مباشرة من روسّيليني. «صرخات وهمســات» يروي الحــالة نفســها، بــطريقة أو بأخرى». كما يمكن القول ايضا ان الفيلم احتلت فيه الممثلة الإيرانية غولشيفته فراهاني مكانة أساسية فيه، إلى جانب حميد رضا يافدان في دور الزوج الغائب عن الوعي/ حجرة الصبر.
بقلم: منير الفلاح