استيقظ الشّعب التونسي يوم الأربعاء 18 فيفري على خبر فاجعة جديدة ذهب ضحيتها أربعة شهداء من أعوان الحرس الوطني على يد عصابة تكفيرية وذلك في قرية بولعابة من ولاية القصرين. وينضاف هؤلاء الأبطال إلى قافلة الشهداء من أمنيين وعسكريين ومدنيين الذين سقطوا في السنوات الأخيرة على يد جماعات الإرهاب. واللاّفت للانتباه أنّ هذه العملية، على غرار العمليات الأخيرة، جدّت لا في الجبال الخالية بل في منطقة آهلة بالسكان ممّا يؤشّر لنقلة نوعية في تحركات هذه العصابات وانتشارها ويؤكّد أنّ الإرهاب ما فتئ يتغلغل في تونس، كما يؤكّد أنّ بلادنا مازالت لم تضع قدمها في الطريق الصحيح لمواجهة هذه الآفة والقضاء عليها.
إنّ مواجهة الإرهاب تقتضي وضع استراتيجية وطنية شاملة تعتني بمختلف مستويات التّعاطي مع هذه الظاهرة في مختلف أبعادها:
- المستوى السياسي: رغم تحسّن الإرادة السياسية في مواجهة الإرهاب منذ رحيل حكومة الترويكا ومن بعدها السلط المؤقتة للمرحلة السابقة (المجلس التأسيسي ورئاسة الجمهورية المؤقتة…) التي لطالما تساهلت مع هذه الظاهرة الشيء الذي لعب دورا هاما في انتشارها فإنّ هذه الإرادة تبقى منقوصة مع تواصل عدم فتح ملفات تلك الحقبة ومحاسبة الظالعين في فسح المجال لانتشار العنف السياسي والمليشيات (رابطات “حماية الثورة”) والجماعات التكفيرية وخطاب التكفير والتحريض من جهة، ومن جهة أخرى تواصل استغلال المساجد والمؤسسات التربوية (وخاصة روضات الأطفال والمدارس “القرآنية”) ونشاط بعض الجمعيات والمؤسسات – ومن بينها الإعلامية – التي تدعم الإرهاب بشكل مباشر بتمويله والاستقطاب له أو غير مباشر بتبييضه وتضليل الرأي العام حوله ونشر الأفكار المواتية لانتشار المتعاطفين معه.
- المستوى القانوني والقضائي: مازالت الترسانة القانونية والمنظومة القضائية قاصرة عن مواجهة شاملة وفعّالة للإرهاب وعن تحقيق المعادلة بين نجاعة التصدي له والقضاء عليه واحترام مبادئ حقوق الانسان والحريات العامة والفردية. كما أنها تفتقر لآليات الوقاية والإصلاح وإعادة الإدماج خاصة في ظل الوضع الحالي للمنظومة العقابية أحكاما ومؤسسات حيث تحوّلت السجون إلى حقل لاستقطاب وتكوين الإرهابيين. لذلك فمن الضروري التعجيل بسن القوانين واتّخاذ الإجراءات الكفيلة بتلافي هذه النقائص وتمكين بلادنا من الإطار القانوني والمؤسّسات والآليات الكفيلة بالقضاء على هذه الآفة.
- المستوى الأمني والعسكري: ماانفكت العمليات الإرهابية “النوعية” المتلاحقة تؤكّد نقص جاهزية المؤسسة الأمنية والعسكرية سواء من ناحية التنظيم والتخطيط والاستعداد أو من ناحية العدد والتجهيز. لذلك فإنّ التصدي الفعّال للإرهاب يتطلّب تطوير هاتين المؤسستين وتأهيلهما في مختلف النواحي سابقة الذكر حتى تكونا قادرتين على الاضطلاع بمهامهما على أكمل وجه. كما يتحتّم تحسين الأوضاع المهنية والاجتماعية لأفرادهما وعائلاتهم حتى يُقدموا على أداء واجبهم في أحسن الظروف.
- المستوى الاقتصادي والاجتماعي: من المؤكّد وجود علاقة وطيدة بين انتشار الفقر والتهميش وتغلغل الإرهاب الذي يجد في الأحياء الشعبية والجهات الداخلية والفئات الاجتماعية المفقّرة والمهمّشة حاضنته الاجتماعية ومجاله الحيوي للاستقطاب والتمركز. كما أنه ليس خافيا الارتباط الوثيق بين مافيات التهريب والاقتصاد الموازي والإرهاب. إنّ التصدي للإرهاب لا يجب أن يكون مدخلا لتجريم الاحتجاج والتحركات الاجتماعية بل لا يمكن أن يكون ناجحا إذا لم يستند إلى برنامج اقتصادي واجتماعي يهدف إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وخطة خصوصية لتنمية الجهات والمناطق الحدودية.
- المستوى الثقافي والتربوي: ما من شك أنّ تغلغل الإرهاب يترافق مع تراجع الفكر النيّر والعقلاني الذي ينهل من المعالم المضيئة في تاريخنا وتراثنا الحضاري العربي الإسلامي ومن المكاسب التقدمية للإنسانية ومع انتشار الأفكار الرجعية القائمة على التجهيل والتكفير وسفك الدماء. كما أنّ التهميش الثقافي الذي تعانيه أغلب الجهات الداخلية والأحياء الشعبية وانهيار المنظومة التربوية والتعليمية جعلت من الشباب خاصّة لقمة سائغة لعملية “غسل الدماغ” التي ترمي إلى زرع الظلام في أذهانهم وتحويلهم إلى قنابل موقوتة جاهزة للانفجار. لذلك فإنّ المعركة ضدّ الإرهاب هي أيضا معركة ثقافية وفكرية لا سبيل لكسبها دون إصلاح عميق للقطاع الثقافي وللمنظومة التربوية والتعليمية لنشر ثقافة وطنية تقدمية في صفوف الشعب وخاصة النشء والشباب وإذكاء الروح النقدية والعقلانية في شخصيتهم.
وبطبيعة الحال فهذه الاستراتيجية الشاملة لا يجب أن تقتصر على المجال الوطني بل لا بدّ من أن تأخذ بعين الاعتبار البعد الإقليمي والدولي لظاهرة الإرهاب وبالتالي لمخططات التصدّي لها.
إنّ وضع هذه الاستراتيجية وتنفيذها لا يجب أن يقتصر على مؤسّسات الدولة بل لا بدّ من إشراك كلّ القوى الوطنية الحية السياسية والحقوقية والاجتماعية والثقافية حتى تساهم كلّ من موقعها في جهد وطني جامع للتصدي لهذه الآفة واجتثاثها. لذلك فإنّ عقد مؤتمر وطني ضدّ الإرهاب تشارك فيه تلك القوى هو أحسن إطار لبلورة هذه الاستراتيجية والسّهر على تفعيلها.
محمّد مزام: “كيف نواجه الإرهاب” (افتتاحية “صوت الشّعب”: العدد 164)