عندما تتحوّل الميزانيّات المتعاقبة منذ 14 جانفي مجرّد أوراق وجداول وأرقام لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به، وعندما يتحوّل الاستثناء إلى قاعدة من خلال إعداد الميزانيّات التكميليّة كلّ سنة، فإنّ ذلك ينمّ على أنّ الشّعب قد سلّم مصيره ومصالحه لحكومات هاوية تتدرّب على التّمعّش من السّلطة واقتسام الغنيمة.
إنّ إدراج آلاف المليارات كلّ سنة في جداول، ما يسمّى الميزانية، مخصّصة للتنمية، ليس إلاّ مغالطة، حيث أننا لم نر ولم نسمع عن أيّ مشروع تنموي وفي أيّ جهة قد أنجز أو شرع في إنجازه، بل حتى المشاريع التي كانت مدرجة قبل 14 جانفي وأرصدت لها ميزانية خاصة لم تتجاوز طور الدراسة أو أنها معطّلة ميدانيا. وخاصة المشاريع الكبرى في مجال البني التحتية والخدمات والتجهيزات الصحية وغيرها من المشاريع التي تحوّلت إلى ذكرى قبل أن تُنجز.
فلماذا تعطّلت هذه المشاريع؟ وهل أنّ أسباب التعطّل راجعة كما يُسوّق إعلاميا وخاصة من طرف حكومات الترويكا المتعاقبة إلى الاحتجاجات الشعبية وإلى أطراف لا تريد لهذه الحكومات أن تعمل وتنجح؟
إنّ المتابعة الدّقيقة لتعطّل المشاريع وخاصة الكبرى منها، بيّن أنّ أغلبها يتمحور حول:
- مشاريع الطرقات السيارة صفاقس – قابس ووادي الزقة – بوسالة
- تعبيد وتهيئة وتعصير الطرقات الوطنية
- إنجاز المحوّلات والجسور خاصة بمناطق الشمال الغربي والوسط
- الطرق الحزامية وخاصة الطريق الحزامية بقفصة التي تجاوز إنجازها 5 سنوات ولم تكتمل بعد
- بناء المؤسّسات الاستشفائيّة بالمناطق الداخلية
- صفقات تجهيز المستشفيات واقتناء وسائل النقل الاستشفائي
- تهيئة المناطق الصناعية بالمناطق الداخلية
- تزويد مناطق الجنوب الغربي بالغاز الطبيعي
- مشروع غاز الجنوب
- توسيع المواني التجارية بكلّ من جرجيس ورادس وصفاقس
إضافة إلى جملة من المشاريع المتعلّقة بالقطاع الفلاحي والصيد البحري والسكن الاجتماعي بمناطق الشمال الغربي والوسط.
وبالبحث عن أسباب تعطّل جملة هذه المشاريع الكبرى، يمكن القول أنّها متعدّدة ومتداخلة ولكنها ليس لها أيّ علاقة بالاحتجاجات الشعبية، ذلك أنّ المواطنين المحتجّين والمطالبين في أغلبهم بالشغل لا يمكن أن يعطّلوا مشاريع توفّر لهم مطلبهم الأساسي.
كما أنّ المعاينات الميدانية قد أثبتت أنّ الأسباب المباشرة تتلخّص في:
– أسباب عقارية وخاصة بالنسبة لمشاريع الطرقات السيارة حيث أنّ المواطن أصبح قادرا بعد 14 جانفي على حماية أملاكه ومراجعة تقييمات الدولة لثمن الأراضي إضافة إلى تصدّي المواطنين لتفرّد الإدارة برسم المسارات التي يمكن أن تتلف وحدة أراضيهم وتخرجها من منظومة الإنتاج الفلاحي المجدي مثلما هو الشّأن بالنسبة للقسط الثاني من الطريق السيارة وادي الزرقة – بوسالم.
– أسباب مرتبطة بالطّابع البيروقراطي للإدارة وخاصة في مجال الصفقات العمومية التي مازالت محكومة بنفس الآليات السابقة الشيء الذي عطّل عددا من المشاريع سواء التي في طور الدّراسة أو التي أعلن في شأنها طلب عروض.
– ضعف الدولة ممّا انعكس سلبا على أداء كلّ الإدارات المعنيّة بإنجاز ومتابعة هذه المشاريع، حيث تحجم الإدارات عن القيام بدورها في إعداد الملفّات أو إعلان طلب العروض في إبّانه أو تعمّد القيام بأخطاء في إعداد الملفات ممّا يحتّم إعادة النّظر فيها مجدّدا وهو ما جعل عددا كبيرا من المشاريع معطّلة في مستوى الدّراسات أو طلب العروض.
– أسباب متعلقة بضعف المشاركة للمقاولين المحلّيين أو الأجانب في المناقصات أو طلبات العروض، وهذا الإحجام مرتبط بتقلّص الثّقة في قدرة الدولة على الالتزام بتعهّداتها الماليّة في إنجاز المشاريع.
– تفشّي وتوسّع دائرة الفساد الإداري والمالي داخل المنظومة البيروقراطية الشيء الذي انعكس سلبا على مصداقية هذه المشاريع وقلّص من ثقة كلّ الأطراف في جدّيّتها.
إنّ كلّ هذه الأسباب المباشرة المعطّلة لإنجاز المشاريع الكبرى تؤكّد أنّ الحكومات المتعاقبة على البلاد بعد 14 جانفي 2011 لم تكن قادرة على إحداث أيّ تحوّل في المنظومة البيروقراطية التي كانت تمثّل أحد أهم ركائز الفساد التي يعتمد عليها نظام الاستبداد، كما تسفّه المقولات التي كانت تروّجها هذه الحكومات من أنّ الاحتجاجات الشعبية والاعتصامات هي التي عطّلت الإنجاز.
ولكن هل سيتواصل تعطّل هذه المشاريع، مع الحكومة الجديدة التي لا تتصف بالمؤقت؟ أم أنّ المشكل ليس في شكل الحكومة بل في قدرتها على التحليل المعمّق والعلمي للأسباب الحقيقية التي أدّت إلى تعطّل التنمية بشكل عام في البلاد منذ أربع سنوات، بعيدا عن نظريّات المؤامرة والتخوين ورمي المسؤولية على الآخرين.
إنّ المتمعّن في الأسباب المباشرة التي عطّلت ويمكن أن تعطّل مستقبلا إنجاز عدد كبير من المشاريع الكبرى، يتبيّن أنها مرتبطة بمنظومة الفساد والبيروقراطية والإجراءات الإدارية المعقّدة وقانون الصّفقات المعدّ أصلا للتشجيع على سرقة المال العام وإهداره، كما أنّ القوانين التي تنظّم الانتزاع للمصلحة العامة وتفرد الدولة بتحديد قيمة المنتزع، وعدم تشريك أصحاب الشّأن في صياغة هذه المشاريع هو من العوامل التي تجعل المواطنين يعرقلون إنجازها.
لذلك وحتى يمكن إعادة تشغيل هذه الترسانة من المشاريع فإنّه بات من الضروري إعادة النّظر في المنظومة الإدارية برمّتها وتبسيط الإجراءات المتعلّقة بإنجاز المشاريع بشكل يسهّل مشاركة المواطنين في إنجازها وتبنّيها باعتبار هذه المشاريع تنجز بالمال العام ولفائدة المواطنين، وبالتالي فهي منهم ولهم، ولتجذير هذا الشعور لدى المواطنين يجب على القائمين على إنجازها ودراستها أن ينزلوا من أبراجهم العاجيّة والالتحام بأصحاب الشّأن وتشريكهم في اتّخاذ القرار حولها في إطار تصوّر تنموي تشاركي يؤسّس لدولة المواطنين لا دولة الرّعية، دولة تبني وتنجز لا تعطّل وتؤجّل.
فمتى تتحرّك المياه الرّاكدة وتبدأ هذه المشاريع ترى النور ويبدأ المواطن يتحسّس أنّ شيئا ما يتغيّر بعد أربع سنوات من الفوضى واليأس؟
(حسين الرّحيلي، الخبير الاقتصادي وعضو دائرة التخطيط والدّراسات بالجبهة الشعبيّة:
جريدة “صوت الشّعب” العدد 164)