يذهب الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو إلى القول إنّ المواطنين في دولة حرّة هم من يفعلون كلّ شيء بسواعدهم ولا شيء بمالهم، فهم لا يدفعون المال من أجل إعفائهم من القيام بواجباتهم بل يدفعون للقيام بها بأنفسهم.
ونعتقد أنّ هذا التعريف ينطبق تماما على التونسيين الذين وعوا مواطنتهم في عهد الاستعمار الفرنسي. ولا شكّ في أنّ ضبط قوائم بأسماء هؤلاء المناضلين وما توفّر من معلومات حولهم عمل من شأنه أن ينصفهم ويخلّد ذكراهم. وقد ساهمنا في هذا العمل بتقديم قوائم المعاقبين لأسباب سياسية في مؤلف موسوم ب”القضاء والسياسة في عهد الاستعمار الفرنسي”. وحسب ما توصّلنا إليه، يمكن القول إنّ التونسيين المعارضين السياسيين أو النقابيين في عهد الاستعمار الفرنسي ينتمون إلى مختلف فئات الشعب. وسنبيّن هنا أهم الانتماءات الاجتماعية للمناضلين الذين تعرّضوا إلى المحاكمات أو سلّطت عليهم عقوبات إدارية كالإبعاد. وما يلفت الانتباه في الجرد الذي قمنا به هو الغياب شبه الكلّي لكبار البورجوازيين والملاّكين العقّاريين في قوائم المعاقبين، بينما كانوا يتهافتون على المناصب والمقاعد في المجالس الرسميّة.
ونذكر في هذا السياق أوّلا المنصف باي، باعتباره من الأسرة المالكة الحسينية وأوّل ممثّل للشرائح المذكورة. فقد قامت السلط الفرنسية بإزاحته من العرش بعد طرد قوّات المحور من تونس سنة 1943 وأبعدته إلى الأغواط ثم تنس بالجزائر ونقل بعد ذلك إلى مدينة “بو” بالجنوب الفرنسي إلى أن توفي سنة 1948. وقد مثّل هذا الإجراء، قمّة التعسّف الاستعماري لأنّه تجاوز شخص المنصف باي واعتدى على الشعب التونسي بكامله باستهدافه الباي الذي كان يمثّل في ذلك الوقت السيادة التونسية في نظر التونسيين. وقد عكس الشعر الشعبي هذه النظرة في الأبيات التاليّة:
“تونس مسكينة
بعد المنصف كي ظلموها
تبكي حزينة”
ومن بين القلائل المنتسبين إلى شريحتي البورجوازية الكبيرة (التجار الكبار والصناعيين) وكبار الملاكين الذين سلّط عليهم العقاب بسبب نشاطهم السياسي نجد الشاذلي بن محمد درغوث ومختار كاهية. وقد اتّخذت السلط أثناء أحداث مقاطعة الترامواي في مارس 1912 إجراءات زجرية تقضي بوضع الأوّل في الاعتقال الإداري بمدنين ثم عين دراهم والاقتصار على اعتقال الثاني بباردو بسبب قرابته من محمد الناصر باي.
وينتمي الكثير من القياديين والمناضلين السياسيين الذين لحقهم العقاب لأسباب سياسية إلى فئة كبار ممثّلي المهن الحرّة والوظيفة العمومية. نذكر من بينهم محمد السنوسي وهو مدرّس بجامع الزيتونة وكاتب (بمثابة قاض) بمحكمة الوزارة، واتخذ ضده إجراء بالنفي إلى الكاف في إطار ما يعرف ب”النازلة التونسية” (1885). ونُفي في قضية مقاطعة الترامواي علي باش حامبة ومحمد نعمان والصادق الزمرلي وهم محامون. وشملت المعاقبة رموزا من الحزب الدستوري القديم مثل الطبيب أحمد بن ميلاد عضو اللجنة التنفيذية الذي حوكم سنة 1945، وخاصّة قياديين في الحزب الدستوري الجديد. ومن هؤلاء القياديين هناك الأطباء مثل محمود الماطري وسليمان بن سليمان والمحامين مثل الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف. فقد تعرضّت قيادات الحزب الدستوري الجديد للقمع في عديد المناسبات: الإبعاد سنتي 1934 و1935 وأثناء الأزمة السياسية في سنة 1952 والسجن إثر أحداث 1938 وأثناء الحرب العالمية الثانية وأزمة 1952. كما تعرّض موريس نزار المحامي والكاتب العام للحزب الشيوعي التونسي للإبعاد سنة 1934 و1952.
ونجد أيضا الكثير من المعاقبين لأسباب سياسية ينتمون إلى الشرائح الوسطى إذ نجد الصحافيين مثل محي الدين القليبي كاتب اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري القديم وعبد العزيز العروي مدير “الهلال”. وطال العقاب الوكلاء: محمد بورقيبة والأساتذة كعلالة البلهوان من قيادات الحزب الدستوري الجديد ومحمود المسعدي وهو نقابي دستوري جديد والمهندسين مثل روبير لوزون مؤسّس الجامعة الشيوعية في تونس.
ونظرا إلى الدور المهمّ الذي قام به التجار والحرفيون في الحركة الوطنية فقد أحيل الكثير منهم على المحاكمة وسلطت عليهم إجراءات الإبعاد. فعلى سبيل المثال ينتمي البعض من المحالين في القضايا المنشورة إثر أحداث أفريل1938 وأحداث 1952 إلى هذه الفئة الاجتماعية. ففي بعض المحاكمات تبلغ نسبة التجار من مجموع المحالين 50%. وبلغ عدد النسّاجين في قصر هلال أربعة على عشرة أحيلوا في قضيّة مظاهرة 29 فيفيري 1936.
ولم يكن نصيب الفلاحين من القمع قليلا إذ لم ينقطع نضال سكان الأرياف ضدّ الاستعمار في أغلب فترات عهد الاستعمار المباشر. وتشهد على ذلك الإجراءات العقابية التّي شملت أهالي قيادة خمير والمحاكمات التّي شملت فئات الفلاحين منها محاكمة 1906 ومحاكمة الدغباجي ورفاقه سنة 1921 ومحاكمات المتّهمين بالاعتداء على ضيعات المعمرين سنة 1952 و1953. كما طالت المعاقبة لأسباب سياسية عناصر قيادية عديدة تنتمي إلى فئات الفلاحين.
أمّا العمال فقد انتصبت المحاكم لمقاضاتهم على نضالهم النقابي. فقد أحيل على القضاء التونسي عديد العمال في قضايا اجتماعات غير مرخّص فيها والتحريض على الإضراب وعرقلة سير العمل سنة 1924 مثل مختار العياري. وشملت محاكمة 1925 مختار العيّاري ومحمد الغنوشي ومحمود الكبادي وعلي القروي الذين سلّطت عليهم أحكام بالنفي لمدّة عشر سنوات للأوّل وخمس سنوات للآخرين. وانتصبت المحكمة الجنائية الفرنسية بصفاقس سنة 1948 في قضية إضراب 4 أوت 1947 وأصدرت أحكاما قاسية على تسعة عمال من بينهم الحبيب عاشور.
وشمل القمع العمال في الحملات التّي استهدفت الأحزاب السياسية مثل المحاكمات التّي أحيل فيها الشيوعيون كقضية المؤامرة ضدّ أمن الدولة سنة 1922 وقضايا الحزب الدستوري الجديد مثل قضية الديوان السياسي السادس المعروفة بقضية الحبيب ثامر في قضايا التظاهر وعقد اجتماعات عمومية دون رخصة وعرقلة حريّة الشغل والتحريض على التباغض بين الأجناس إلخ إثر أحداث أفريل 1938 وخلال أحداث 1952. وفي نفس الإطار شملت إجراءات الإبعاد العمال مثل صالح السبعي وهو مناضل شيوعي أُبعد إلى طبرقة سنة 1940.
وإضافة إلى هذه الفئات الاجتماعية شملت المحاكمات العناصر الشعبية والهامشيين مثل بائعي الجرائد وبائعي الخضر والحمّالين والعاطلين عن العمل والخدم وغيرهم. ولعل محاكمة المتّهمين في أحداث الزلاّج تمثّل أبرز محاكمة لهذه الفئة من التونسيين. ولكن لا تكاد تخلو منها قضايا التظاهر وقضايا المتّهمين بالقتل والتخريب مثل قاتل الأمير عز الدين باي الأمحال وهو من متساكني الجبل الأحمر ولا شغل له. وفي الكثير من الحالات فإنّ العنف الذي يتهمّ به الموقوفون ينتج عن تدخّل الأمن أو يكون نتيجة عملية استفزاز من قبله.
ونشير إلى أنّنا لم نتمكّن من تحديد موقع عنصر الشباب في كافة المحاكمات السياسية والنقابية نظرا إلى شحّ المعلومات المتعلّقة بالسنّ في الوثائق التّي أمكننا استعمالها. غير أنّ بعض الوثائق أسعفتنا بالإشارة إلى صفة المعاقب أو سنّه. فنجد مثلا ثمانية شبان من 12 متّهما في قضية مناضلي نفطة سنة 1934 و15 طالبا سنّهم دون 27 من 18 متّهما في قضية المناشير التّي وزّعت في ماي 1938 و27 شابا من 34 متّهما في قضايا التظاهر التّي أحيلت على القضاء خلال شهري ديسمبر 1938 وجانفي 1939. كما أنّنا رصدنا تمثيلية عالية للشباب في المحاكمات التّي وقعت في باجة سنة 1952 تصل إلى حدود 77 % في محاكمة 4 فيفري 1953. ونجد أيضا عناصر شابة في مستوى القيادات المركزية المحاكمة أو المبعدة. ونسوق نفس الملاحظة على مستوى جهوي ومحلي. وقد رصدنا بعض المحاكمات التّي أقيمت خصيصا للشباب الزيتوني والتلمذي مثل محاكمة فيفري 1936 التي أحيل فيها 36 زيتونيا على المحكمة الابتدائية بتونس ومحاكمة 24 جانفي 1952 التّي أحيل فيها 28 طالبا زيتونيا، والمحاكمات التّي أجريت لتلاميذ معاهد صفاقس وسوسة في بداية 1952. وبالتالي يمكن القول إنّ العنصر الشاب مهيمن في المحاكمات السياسية والنقابية.
وحريّ بما أن نشير إلى الحضور النسائي في المحاكمات السياسية. ونحن إذ لا نزعم امتلاك قائمة كاملة للمناضلات اللاتي وقفن أمام القاضي فإنّنا تمكّنا من رصد بعض الحالات. فقد أحيلت السيدة باستيد على المحكمة الابتدائية الفرنسية بتونس مع ستة من رفاقها في قضية تعلّقت بالحزب الشيوعي التونسي سنة 1936. وأحيلت في قضية التظاهر يوم 28 ديسمبر 1938 أربع مناضلات دستوريات وفي قضية مماثلة يوم 6 جانفي 1939 أثنتا عشرة مناضلة دستورية من جملة أربعة وثلاثين متّهما. وفي أحداث 1952 أحيلت على القضاء في قضايا التظاهر بعض النساء من بينهن ابنة أخت الحبيب بورقيبة المناضلة شاذلية بوزقرو التي اعتقلت في أحداث 1938 و1952. وشكّل العنصر النسائي أغلبية المتّهمين أي بنسبة 57 % في محاكمة المتّهمين في مظاهرة 15 جانفي 1952 بباجة وكان من بين المتّهمات شاذلية بوزقرو ووسيلة بنت محمد بن عمار. ووقفت زبيدة بنت عمر بالصيود أمام القضاء العسكري بتونس إثر مشاركتها في مظاهرة 4 فيفري 1952 بباجة احتجاجا على وفاة المناضل صالح الأصفر وهو رهن الاعتقال.
نستنتج إذن أنّ الردع السياسي لم يشمل الشرائح الاجتماعية بنفس الحدّة نظرا إلى اختلاف درجة انخراطها في الكفاح الوطني والنقابي. فهو لم يشمل كبار البورجوازيين والملاّكين العقّاريين إلاّ في مستوى بضعة أشخاص بينما سلط بقوّة على بقيّة الشرائح الاجتماعية وعلى الشباب والنساء. وهكذا تحمّلت هذه الشرائح العبْء الأكبر في مقاومة الاستعمار وسلط عليها بمفردها تقريبا القمع الاستعماري.
الجامعي والمؤرّخ خميّس العرفاوي
جريدة “صوت الشعب”: العدد 168