بعد أن ضرب الإرهاب في قلب العاصمة واستهدف أهم القطاعات الحيوية بالبلاد وأودى بحياة عدد كبير من الأبرياء، خلفّت هذه الجريمة البشعة حالة من الارتباك والذهول الشعبي لهول ما جرى وطرحت أكثر من سؤال حول مستقبل البلاد ومآلات مناعته وأمنه و ثورته، فتعدّدت على إثرها المبادرات والنداءات الداعية لإيقاف نزيف التدهور الخطير الذي تعيشه البلاد بين داعٍ للتعبئة الشعبية وبين منادٍ بالمصالحة والوحدة الوطنية وبين متمسك بخيار المعالجة الأمنية والعسكرية. تعدّد الشعارات وتشابه المصطلحات التي يرفعها الفرقاء السياسيون جعل من المشهد أكثر غموضا لدى غالبية الرأي العام. التقت “صوت الشعب” أحد أبرز زعماء الحركة الديمقراطية الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية حمّه الهمّامي ليبسُط لقرّائنا مواقفه من أهم القضايا المطروحة على الساحة الوطنية والحلول والمبادرات التي يقترحها للخروج بالبلاد من هذا المأزق الخطير، فكان لنا معه الحوار التالي:
- تمر اليوم خمسة أشهر تقريبا على إجراء الانتخابات التشريعية لمجلس نواب الشعب ودخول البلاد في نوع من الاستقرار السياسي، ما هو تقويمكم للمناخ السياسي العام بعد هذه المدة؟
ـ ما يزال عدم الاستقرار هو الميزة الأساسية للوضع العام بالبلاد. والسبب في ذلك هو أن التحالف الحاكم الذي أنتجته الانتخابات لا يقدّم الحلول الكفيلة بحل المشاكل التي تعيشها البلاد. نحن أمام وضع أمني مهتز. وأزمة اقتصادية تهدد البلاد بالإفلاس. وحالة اجتماعية مضطربة. وفي نفس الوقت يعيش الفصيل الأول في التحالف الحاكم على وقع صراعات مواقع ضارية، تخفت حينا وتشتدّ حينا آخر. وهو ما من شأنه أن يعمق حالة عدم الاستقرار الموروثة من الحكومات السابقة. ولا بد من الإشارة إلى الوضع الإقليمي المتفجر، خاصة في ليبيا، وإلى الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلدان الأوروبية، وهما عاملان ينعكسان سلبا على الحالة عندنا في ظل استمرار التحالف الحاكم في تنفيذ سياسات اقتصادية فاشلة أصلا. الاستقرار الحقيقي والدائم لا يتأتّى إلا من المعالجات الصحيحة لأوضاع الشعب والبلاد وهو ما لا يتوفر عند التحالف الحاكم الحالي.
- ولكن الحكومة الحالية قدمت في المدة الأخيرة ما أسمته بأولويات المرحلة فهل لا ترون في ذلك، على الأقل، علاجا للمشاكل المستعجلة التي تعيشها البلاد؟
ـ الحكومة الحالية لم تقدّم برنامجا. ولم تحدّد أولويات جدية وفقا لاحتياجات الشعب، بل هي تنفّذ سياسات فاشلة مسبقا، سطرتها لها الحكومة السابقة وضمنتها في قانون المالية للسنة الحالية. وهذه السياسات تكرّس إملاءات المؤسسات المالية الأجنبية التي لا هدف لها سوى حل مشاكل رأس المال على حساب الوطن والشعب، أي عبر إثقال البلاد بمزيد التداين بشروط مجحفة، والتفويت في المؤسسات العمومية والتنقيص في عدد الموظفين وإلغاء دعم المواد الأساسية الخ… وهو ما يعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ولا يحلّها. وقد انتقدت الجبهة الشعبية، منذ البداية، هذا النهج الذي تسير عليه الحكومة ونبّهت إلى مخاطره وهو ما بدأ يتجلّى يوما بعد يوم.
- تزايدت التهديدات الإرهابية في تونس خاصة بعد تحول العمليات إلى العاصمة واستهداف المدنيين وقطاعات حيوية، وقد طالبت الجبهة الشعبية مرارا بتنظيم مؤتمر وطني لمقاومة الإرهاب، وبعد العملية الإرهابية الأخيرة جددتم هذا المطلب. ما هي رؤيتكم لهذا المؤتمر و ما هي الإستراتيجية التي يجب أن تتوخاها الدولة لمواجهة هذه الآفة؟
ـ فعلا الجبهة الشعبية طالبت مرارا، بعد اغتيال شكري والبراهمي وعديد الأمنيين والعسكريين، بعقد مؤتمر وطني لمقاومة الإرهاب. وقد وافق “الحوار الوطني” على ذلك. وتعهد رئيس الحكومة السابق، السيد مهدي جمعة، بعقد هذا المؤتمر قبل منتصف مارس 2015. ولكن ذلك لم يتم. الإرادة السياسية لم تتوفر. وتواصلت العمليات الإرهابية، مستهدفة الأمنيين والعسكريين خاصة، إلى أن حصلت جريمة متحف باردو الأخيرة التي استهدفت سياحا أجانب وتونسيين وضربت قطاعا اقتصاديا تعيش منه مئات الآلاف من العائلات التونسية، فأعادت الجبهة طرح موضوع المؤتمر، ولكن يبدو أن التحالف الحاكم غير متحمّس لذلك، وهو أمر مفهوم. فـ”حركة النهضة” لا تريد الإقرار بمسؤوليتها، في تطور ظاهرة الإرهاب أيام كانت في الحكم مع حزب “المؤتمر” وحزب “التكتل”. كما أن نظرة “النداء” للتصدي لهذه الظاهرة يغلب عليها الطابع الأمني.
الجبهة الشعبية تعتبر أن الهدف من المؤتمر الوطني لمقاومة الإرهاب هو أولا تقويم العوامل والأسباب التي ساعدت الظاهرة الإرهابية على التطور في بلادنا ومن ثمة تحديد من المسئول عن ذلك. وثانيا ضبط إستراتيجية شاملة لمقاومة الإرهاب. وهذه الإستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والأمنية والعسكرية لهذه الظاهرة ذات البعد الإقليمي والدولي أيضا، باعتبار أن الجماعات الإرهابية العاملة في بلادنا تمثل فرعا من الجماعات العاملة في الأقطار العربية والإسلامية الأخرى، وهي تلقى الدعم من نفس الأطراف الإقليمية والدولية التي تريد إجهاض الثورة التونسية، بل تريد إجهاض كل تغيير وطني وديمقراطي وتقدمي في الأقطار العربية.
- هل من توضيح أكثر لمضمون هذه الإستراتيجية؟
ـ علينا الاقتناع بأن لا حل نهائيا وحقيقيا لمعضلة الإرهاب في بلادنا إلا عبر تكريس مشروع وطني كبير يؤسس لدولة وطنية، ديمقراطية واجتماعية، تتوفر في ظلها مقومات العيش الكريم لمختلف الطبقات والفئات الشعبية. فكلما تقدمنا في تحقيق أهداف ثورتنا وثبّتنا حقوق شعبنا وأصلحنا مؤسسات الدولة من أمن وقضاء وإدارة وجعلناها في خدمة الشعب والمجتمع وقاومنا الفساد المستشري ووفرنا الشغل لطالبيه وعدلنا بين الجهات وحسّنا ظروف عيش الناس، ووفرنا لهم تعليميا عصريا وراقيا ومنظومة صحية متطورة، تستجيب لحاجاتهم، ومناخا ثقافيا مناسبا للخلق والإبداع وبيئة سليمة، كلما حاصرنا الظاهرة الإرهابية وخلقنا الظروف المناسبة للقضاء عليها فكريا وسياسيا واجتماعيا وأمنيا.
- أصبحت تونس علاوة على الأحداث الإرهابية التي تعيشها داخليا مصدّرا للإرهاب في العالم فآلاف الشباب التونسي ينخرطون في الجماعات الإرهابية في الخارج، حسب رأيكم ما الذي يجعل بعض شباب تونس يتحوّل إلى إرهابي؟
ـ إنه أمر مفزع أن تصبح تونس بلدا مصدّرا للإرهاب، أن يصبح شباب تونس حطبا للمؤامرات الاستعمارية والصهيونية والرجعية العربية لإجهاض كل تغيير وطني وديمقراطي وتقدمي في الأقطار العربية ولتفتيتها على أسس طائفية وعرقية وإرجاعها قرونا إلى الوراء لتسهيل إخضاعها ونهبها. أما عن أسباب ذلك فهي متعددة. فالبطالة والفقر والتهميش والجهل والفراغ الفكري والقيمي يخلق الأرضية المناسبة لاستقطاب فئات من الشباب التونسي، من أوساط مختلفة، لصف الجماعات المتطرفة التي تغريهم بالمال في الدنيا وتعدهم بالجنة في الآخرة وتوهمهم بأنهم يكافحون من أجل “كلمة الحق” ولكنها تحوّلهم في الواقع إلى قطيع مستعد لارتكاب أفظع الجرائم. وتستخدم الجماعات الإرهابية، المؤطرة والممولة والمدربة والمستعملة، من دول ومؤسسات وأجهزة مخابرات، شبكات كبيرة للإيقاع بالشباب التونسي. وقد كان لـ”الترويكا” دور خطير في تسهيل تجنيد الشباب التونسي من طرف هذه الشبكات. كما كان لها دور خطير في فتح الأبواب لدعاة الفتنة كي يرتعوا في تونس ويبثوا سمومهم في عقول الشباب ويهيئوهم للسفر لمواطن الحرب. ولا ننسى بالطبع دور وسائل الإعلام والاتصال التي يستعملها أباطرة الإرهاب في التأثير على الشباب. ولكن تبقى العوامل الداخلية في كل الحالات هي المحددة. فلو توفرت لشبابنا ظروف حياة جيدة لما قدر الظلاميون الفاشست على التأثير بسهولة في قطاع منه.
- عبرت عدة دول عن تضامنها مع تونس ووقوفها إلى جانبها في حربها ضد الإرهاب، هل تعتقدون أن هذه الدول باستطاعتها تقديم مساعدات جدية وفعالة لتعزيز الأمن وتوفير الاستقرار في تونس؟
ـ من هي هذه الدول؟ وماذا قدم معظمها لتونس غير الوعود الكاذبة؟ علينا أن لا ننسى أن الدول الاستعمارية الكبرى هي أكبر مسبب للإرهاب وراعٍ له. فمن المسؤول عما آلت إليه الأوضاع في ليبيا والعراق وسوريا والصومال وأفغانستان ومالي واليمن وغيرها؟ أليس هو الدول الغربية التي تدخلت وتتدخل بقوة السلاح، إن مباشرة أو عبر توابعها، في هذه البلدان لتكون النتيجة الخراب والدمار؟ أوليست هذه الدول نفسها هي التي تمول الجماعات الإرهابية وتدربها وتستعملها؟ كيف يمكن لمن يدعم الجماعات الإرهابية في ليبيا أو سوريا أو العراق أن يساعد تونس على مقاومتها؟ ثم لنكن واضحين، إذا كان ثمة من دول تريد حقا مساعدة تونس على مقاومة الإرهاب فلماذا لا تلغي ديونها حتى تستثمرها تونس في مقاومة الفقر والبطالة وفي تعزيز أمنها وجيشها؟ خلاصة القول “ما ينْدبْلك كان ظفرُكْ” كما يقول المثل. و”ما يعاونك كان الّي يحسْ بِيك”. علينا أن نعوّل أولا على أنفسنا وثانيا على أصدقائنا الحقيقيين من الجيران ومن القوى التقدمية في العالم التي تريد لبلدنا الخير والنجاح في ثورته.
- بالعودة إلى خطاب الحكومة ورئاسة الجمهورية بعد العمليات الإرهابية الأخيرة لاحظنا دعوات إلى ضرورة الكف عن المطلبية والتحركات الاجتماعية الإحتجاجية ما رأيكم في هذه الدعوات؟
ـ هذا أمر منتظر. الحكومات الرجعية بشكل عام تستغل الأحداث الإرهابية للنيل من الحريات والتضييق عليها ولتجريم الاحتجاجات الاجتماعية والالتفاف على المطالب المشروعة للعمال والكادحين بعنوان “الوحدة الوطنية” وتمرير المشاريع اللاشعبية واللاوطنية وفرضها عليهم. وهذا ما ينبغي أن نحذر منه في الوضع الحالي، وعلينا أن لا نفرط في أي شبر من مساحة الحرية التي افتكها شعبنا بدمه، وعلينا أن لا نسمح باستغلال الإرهاب لعودة المنظومة القمعية القديمة ولإثقال كاهل الطبقات والفئات الشعبية بإجراءات جديدة تفاقم أوضاعها الاجتماعية المتردية أصلا. وإذا كان على الدولة أن تبحث عن تمويل لسد نفقاتها فما عليها إلا تتجه إلى مقاومة التهرب الجبائي والفساد وإلى استرجاع الأموال المنهوبة في عهد الدكتاتورية وإلى التحكم في مصاريف الإدارة الخ… إن “الوحدة الوطنية” كلمة حق غالبا ما يراد بها باطل، إذ لا معنى لها إن لم تكن مؤسسة على احترام حرية الشعب وحقوقه وكرامته.
- أطلق رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي يوم عيد الاستقلال مبادرة للمصالحة الوطنية واعتبرها من أهم أدوات مكافحة الإرهاب والعنف وثمّن رئيس حركة النهضة هذه المبادرة، فما هو رد الجبهة الشعبية؟
ـ لا يمكن أن نقبل بأي شكل من الأشكال استغلال العملية الإرهابية الأخيرة للالتفاف على مسار العدالة الانتقالية وفتح الباب لكل الذين أجرموا في حق هذا الشعب للإفلات من العقاب.. نحن ندرك أنه ثمة من له مصلحة في كل هذا. أتباع نظام بن علي الذين يريدون الإفلات من المحاسبة من جهة و”الترويكا” التي تريد هي أيضا طي ملف ما أُرتكب من جرائم في عهدها من جهة أخرى، وهو ما يفسّر مسايرة رئيس “حركة النهضة” لما طرحه السبسي في خطابه.
لا بد من قراءة صفحة الماضي حتى نعرف ما حصل وكيف حصل ومن المسئول عما حصل حتى لا يتكرر مستقبلا وبعدها يمكن الحديث عن مصالحة وطنية تحدد القوى الديمقراطية والشعبية شروطها. أما خارج ذلك فالمصالحة الوطنية لا تعني غير إهدار حق الشعب في محاسبة جلاديه وناهبي ثرواته ومنتهكي كرامته.
- دعا مجلس نواب الشعب إلى مسيرة وطنية يوم الأحد القادم تحت شعار “بوحدتنا ننتصر على الإرهاب”، هل ستشارك الجبهة الشعبية في هذه المسيرة جنبا إلى جنب مع أحزاب الترويكا التي اعتبرتها سابقا مسئولة عن تغلغل الإرهاب في تونس؟
ـ ما من شك في أن الوحدة هي خير ضامن للانتصار على الإرهاب. ونحن في الجبهة الشعبية كنا وما زلنا وسنبقى دعاة وحدة. ولكن وحدة من مع من؟ وحدة القوى الديمقراطية والشعبية بعضها مع بعض وعلى أساس معارضة جدية للإرهاب في إطار دولة مدنية وديمقراطية؟ أم وحدة الضحية مع جلاده لتتوفر له فرصة التنصل من مسئولية ما ارتكب من جرائم؟ لنوضح أكثر. الإرهاب في تونس لم يأت من فراغ، بل إنه وجد في عهد الترويكا بقيادة حركة النهضة مناخا فكريا وسياسيا وأمنيا كي يتطور ويستوطن في بلادنا ويرتكب ما ارتكب من جرائم، منها اغتيال قائدي الجبهة الشعبية، شكري والحاج البراهمي وعديد الأمنيين والعسكريين. فهل نغمض أعيننا عن كل هذا ونقول عفا الله عما سلف ونمرّ؟ لا. هذا موقف خطأ خصوصا أن الأطراف المعنية لم تراجع موقفها ولم تتحمل مسؤوليتها في ما حصل. لذلك نحن سنناقش في الجبهة الشعبية الموقف المناسب من المسيرة التي تمت الدعوة إليها.
أجرى الحوار ل”صوت الشعب”: سمير جرّاي