أثارت تصريحات الأمين العام للاتحاد العام التونسي، حسين العباسي، لـ”العربي الجديد” حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام بالبلاد وما يحمله في طياته من مخاطر الانفجار، ومسؤولية الأعراف ومنظمتهم في ذلك، ردود فعل عنيفة من رئيسة هذه المنظمة ومن بعض المحيطين بها الذين سارعوا باتهام العباسي بمحاولة توتير الأوضاع، وبالعودة إلى نظرية “الصراع الطبقي” التي ولّى زمانها حسب زعمهم. وفي الحقيقة فإنّ ردة الفعل هذه ليست سوى مظهرا من مظاهر الحملة التي تشنّ منذ مدة ضدّ العمّال والأجراء وهياكلهم النقابية والتي تحاول تجريم نضالهم المشروع من أجل تحسين أوضاعهم المادية والمعنوية المتردية.
إنّ الذين يشاركون في هذه الحملة نسوا أو بالأحرى تناسوا أنّ هذا الشعب بعمّاله وكادحيه وفقرائه قام بثورة ضد الاستغلال الفاحش وضد الفساد المستشري، طامحا إلى تحسين أوضاعه، ولكن بعد أكثر من أربع سنوات من هذه الثورة فإنه يجد نفسه يعيش في نفس الظروف التي ثار ضدها إن لم نقل في ظروف أشنع. فمن كان غنيّا في عهد الدكتاتورية ما يزال غنيا، هذا إن لم يزدد غناه، ناهيك أنّ أعداد الملياردير والمليونير ارتفع عمّا كان عليه قبل 2010. ومن كان فقيرا ظلّ فقيرا، هذا إن لم يزدد فقره، ناهيك أنّ كلّ الأرقام الرسمية تؤكد ارتفاع نسبتي الفقر والبطالة مقارنة بما قبل 2010 أيضا.
إنّ الحكومات المتعاقبة منذ سقوط بن علي لم تقطع مع السياسات الاقتصادية المولّدة للفقر والتّهميش، والتي لا تنتفع منها سوى أقليات من الأثرياء المحليين والأجانب، بل استمرت فيها، فلا مراجعة لنمط توزيع الثروة ولا للمنظومة الجبائية، ولا مقاومة للفساد وتبذير المال العام والتّهريب المدمّر للإنتاج المحلّي، ولا قطع مع سياسة التداين التي تعمّق التبعيّة ونهب ثروات البلاد، ولا زيادة جدية في الأجور تحسّن مستوى عيش الكادحين والأجراء، ولا مشاريع تنموية تعالج معضلة البطالة، ولا تحكّم في الأسعار للتصدّي لغلاء المعيشة ومن يقف وراءها من المحتكرين المجرمين، ولا إصلاح للمنظومتين التربوية والصحية لوضع حدّ لتدهورهما المضرّ أوّلا وأخيرا بالطبقات والفئات الكادحة والشّعبية.
وأمام وضع كهذا فهل يتوقّع من العمّال والأجراء في المدن والأرياف ومن المعطّلين عن العمل أن يتخلّوا عن المطالب التي ثاروا من أجلها ويتركوا ماكينة الاستغلال والفساد التي دمّرت حياتهم في عهد الدكتاتورية تعود إلى الاشتغال كما كانت؟ هل يتوقّع من أهالي سيدي بوزيد والقصرين وتالة وسليانة والقيروان وغيرها من مدن البلاد وأحيائها الشعبية أن تركن للخنوع ولا تدافع عن مصالحها بدعوى أنّ البلاد تمرّ بصعوبات؟ وهل أنّ العمال والأجراء والفقراء عليهم وحدهم أن يضحّوا دائما لمواجهة هذه الصعوبات التي سبّبتها الحكومات المتعاقبة منذ عهد الدكتاتورية وحتى بعد سقوطها؟ لماذا لا تأخذ الدولة المال من حيث يجب أن تأخذه أي من المتهرّبين من الجباية ومن الذين راكموا الثروة بلا حساب زمن الدكتاتورية؟
إنّ من يعتقد أنّ العمال والكادحين والفقراء والمعطلين عن العمل سيسكتون عن حقوقهم مخطئ كلّ الخطأ. وإنّ من يعتقد أنّ الأساليب القمعية قادرة على إسكاتهم هو مخطئ كلّ الخطأ أيضا. إنّ النضال الاجتماعي لا يتحرّك بكلمة من حسين العباسي، ولا يتوقف أو يلغى بكلمة من وداد بوشماوي، بل إنه سيظلّ قائما طالما أنه يوجد في الواقع الاقتصادي والاجتماعي ما يغّذّيه ويدفع إليه من استغلال فاحش وفقر وتهميش وتوزيع غير عادل للثروة وتمييز في التعليم والصحة والسكن والنقل على أساس المال. وليس ثمة أية مبالغة في القول اليوم إنه إذا استمرت حالة الشعب على ما هي عليه اليوم وإذا استمر سلوك الحكومة وأرباب العمل على ما هو عليه اليوم من تجاهل لهذه الحالة واستمرار في انتهاج نفس السياسة الاقتصادية الخرقاء وتجريم التحركات الاجتماعية المشروعة، فإنّ فصلا ثانيا من الثورة التونسية آت لا ريب فيه، وسيكون هذه المرة ذا طابع اجتماعي. وكما حصل ذات يوم من أيام ديسمبر 2010، فإنّ الجماهير الجائعة والمفقّرة لن تطلب ترخيصا من أحد كي تنزل إلى الشارع ولن تصدّها أيّة آلة قمعيّة عن تحقيق أهدافها.
لذلك فالعاقل اليوم الذي يرغب حقا في إرباح البلاد وقتا ثمينا، هو من ينظر اليوم إلى مطالب العمّال والكادحين والفقراء والمهمّشين والمعطّلين عن العمل بجدية ويبحث لها عن حلول في استنباط نمط تنمية جديد يقطع مع نمط التنمية القديم القائم على الحيف والتبعية ويوفّر لأبناء الشعب وبناته مقوّمات الحياة الكريمة من شغل وتعليم وصحة وسكن ونقل وثقافة وبيئة سليمة. وفي مثل هذا المناخ تتوفّر كل العوامل التي تساعد على اجتثاث العنف والإرهاب اللذين يتغذّيان من الفقر ومن الخواء الفكري والروحي ومن عدم الاستقرار السياسي وضعف مؤسّسات الدولة والمجتمع التي لا يراد إعادة تنظيمها على أسس ديمقراطية حقّة. ومن النّافل أنّ هذا الطريق السليم، طريق التغيير الديمقراطي والاجتماعي، هو الذي يتبنّاه حزب العمّال والجبهة الشعبية اللذان سيظلان إلى جانب الطبقات والفئات الكادحة والشعبية في كلّ الظروف وبالخصوص في الظروف الصعبة التي تكثر فيها المناورات والتهديدات كما هو الحال اليوم.
(افتتاحيّة “صوت الشعب”: العدد 174)