حقّ الإنسان في الماء لا غنى عنه من أجل حياة تليق بكرامة الإنسان. وهو حق مرتبط ارتباطا وثيقا بالحقّ في الحياة الذي يُعتبر من أهم حقوق الإنسان على الإطلاق. لذلك يضمن الفصل 44 من الدستور التونسي “الحق في الماء”، الذي ظلّ مجرّد إقرار لحقّ مازال الكثيرون محرومين منه.
هذا هو الحال بالنسبة لأكثر من 20 عائلة من سكان حي 15 أكتوبر، القريب من مفترق “بيرين” والذي لا تفصله سوى 5 كلم عن العاصمة. هذه العائلات، ضعيفة الحال، مرّ عليها أكثر من صيف وهي محرومة من “شربة ماء”.
“صوت الشعب” التقت بعدد من المتساكنين الذين عبّروا عن استيائهم من الحكومات المتعاقبة ومن تجاهل السّلط المحلية والجهوية لمطلبهم الوحيد والمستعجل والمتمثّل في إمدادهم بالماء الصالح للشراب.
“لا نريد سوى الماء”
هذه الجملة تردّدت على مسامعنا عشرات المرّات منذ وصولنا إلى نهج 15 أكتوبر. نساء ورجالا وأطفالا يردّدونها باستمرار – حتى أنه تملّكنا الإحساس بالعطش – ولخّصت معاناتهم وحرمانهم ونفوا من خلالها “بلاء النفي” رغبتهم في أيّ شيء باستثناء الماء.
السيدة حنان، أمّ لأربعة أطفال أصغرهم عمرها سنة، كلّهم في حاجة ماسّة إلى حنفيّة في البيت. محدّثتنا عبّرت بشكل تلقائي عن حاجتها وحاجة جيرانها إلى عنصر من أهمّ عناصر الحياة قائلة:” ليس لدينا ماء ولا طرق معبّدة ولا إنارة ولا صرف صحي… نجلب الماء من واد فيه جراثيم وأوساخ، نستعمله للغسيل والتّسييق وأحيانا يغلبنا العطش فنشرب منه”.
وأضافت:” نضطرّ لحفر حفر في منازلنا لصرف المياه المستعملة”، مشيرة إلى أنّ كلّ هذه النّقائص التي يعاني منها السكّان يمكن تجاهلها أمام مشكلة انعدام الماء التي أصبحت الشغل الشاغل لجميع المتساكنين الذين لم يفوّتوا فرصة إلاّ وذكّروا بحرمانهم من الماء.
الحقّ في الماء ظلّ حكرا على الأغنياء
السّكان أكّدوا لـ”صوت الشعب” أنّ بقيّة جيرانهم أمكنهم دفع المبلغ المطلوب للتزوّد بالماء الصالح للشراب والذي يناهز 3 آلاف دينار لكل اشتراك.
“الماء الصالح للشراب لا يبعد عن منازلنا سوى أمتار قليلة”، هكذا قالت السيدة وحيدة، التي بدأت شكواها حتى قبل أن نتوجّه إليها بالسؤال، قبل أن تضيف “أقطن هنا من 2009، توجهنا إلى كلّ الجهات المسؤولة لكنهم لم يراعوا حالتنا الاجتماعية الصعبة”. وأشارت بيدها مردّدة بصوت فيه الكثير من الحسرة والألم، انظر الى أطفالنا “شوف كيفاش امسخين…شوف شعوراتهم”.. “أحيانا نضطر إلى إرسالهم الى أقاربنا كي يستحموا”.
أطفال نهج 15 أكتوبر لا يختلفون عن بقية الأطفال في شيء، سوى أنهم محرومون من أبسط حقوقهم كأطفال، والخطير في المسألة هو أنّهم معرّضون إلى الأمراض والأوبئة بسبب استعمالهم لمياه ملوّثة وقربهم من الخندق الذي يجلبون منه الماء الآسن …
الماء لا يأتي عبر قنوات بل عبر صهاريج
شكوى السيدة نعيمة وشعورها بالغضب ظلّ حبيس صدرها:”شكينا وطالبنا وما طل علينا حدّ وما تلفتلنا حد”. انعدام الماء دفع العائلات إلى شراء ماء الشّرب من “بائع مياه متجوّل” لا يأتي إلى الحي سوى يوم واحد في الأسبوع ليزوّدهم، عوضا عن الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه، بماء مجهول المصدر تتمّ تعبئته في صهاريج بلاستيكية كبيرة دون مراعاة لمعايير النظافة والصحّة.
بدورهم السكان المحرومون من حقهم الطبيعي والدستوري في الماء يخزّنون كميات الماء التي يشترونها في صهاريج وأوعية بلاستيكية عادة ما تكون معرّضة إلى أشعّة الشّمس.
ليس للمتساكنين من حلّ لا أحد سمعنا. ذهبنا إلى كل المسؤولين لكن دون جدوى. “ما طل علينا حد”، وأضافت “مشكلتنا ماء”.
عبد الكريم بوخضر، هو أحد المتساكنين، اصطحبنا إلى الخندق الذي يتزوّدون منه بالماء. عند وصولنا إلى “منبع الماء”، أشار محدّثنا بيده إلى “حفرة”، تتوسّط خندقا مليئا بالأعشاب والحشرات، قائلا:” نستعمل هذا الماء للغسيل وللتسييق ولكلّ الاستعمالات المنزلية، “احنا مظطرّين وما عندنا حتى حلّ، الله غالب”.
كان لون الماء يميل إلى الاخضرار أحيانا وإلى الاصفرار أحيانا أخرى بفعل ما ترسّب فيه من فضلات وكان السيد عبد الكريم، هو عامل يومي وأب لـ6 أطفال، يطلعنا على “الحفرة” ويتساءل بنبرة فيها الكثير من الحسرة “كيف لي أن أدفع المبلغ المطلوب للتزود بالماء والحال حال الله؟”.
الحقّ في الماء مضمون ولكن…
حال بقيّة المتساكنين لا يختلف عن حال محدّثنا فبعضهم عمّال بسطاء وبعضهم الآخر عاطلون عن العمل. العّم حبيب العياري، وهو من أقدم المتساكنين، عبّر عن غضبه من السلطات المحلية والجهوية ومن شركة توزيع المياه
حبيب العياري، الذي كان ينظر، صحبة جيرانه، إلى الأطفال وهم يحملون أوان بلاستيكية ملآ بذلك الماء الآسن حدّثنا قائلا:” أنا ساكن منذ 06 سنوات… المعتمدية تبعثك للسوناد والسوناد تبعثك للولاية والولاية تبعثك للمعتمدية”
هكذا يمكننا أن نفهم أنّ السّلطات المعنيّة ظلّت تماطل هذه العائلات لسنوات عديدة وتحرمهم من حقّهم في الماء، الذي يكفله دستور الجمهورية التونسية، بسبب عدم قدرتهم على سداد حوالي 3000 دينار وتعنّت “السوناد” التي تصرّ على” أنّ إعطاء الإذن بإنجاز الأشغال لا يتمّ إلاّ بعد دفع المبلغ المطلوب”.
لكنّ السيد علي بن يوسف، أستاذ تعليم ثانوي، له رأي مخالف، فقد أكّد لـ”صوت الشعب” أنّ كلّ المتساكنين متمسّكين بحقّهم الدستوري في الحصول على الماء”، مضيفا “نحن في فصل الصّيف ولك أن تتخيّل حاجتنا إلى الماء مع ارتفاع درجات الحرارة”.
كما أبدى بن يوسف دهشته من تجاهل “الدولة” لمواطنيها :”رغم قربنا من العاصمة إلاّ أنّ حينا يفتقر لأبسط مقوّمات الحياة… استغلونا في الدعاية الانتخابية لكنهم تجاهلوننا”.
وأكّد محدّثنا أنّ “شركة استغلال وتوزيع المياه” طلبت من المتساكنين 30 ألف مليون مقابل تزويدهم بالماء. ولم يخف خشيته من خطورة الوضع وإمكانيّة “أن يصاب أحد الأطفال بمرض خطير جرّاء استعمال هذا الماء الملوّث”.
وختم محدّثنا قائلا :”تقدّمنا بـ5 مطالب جماعية وكلّما ينضاف إلينا ساكن جديد نقدّم مطلبا جديدا، في محاولة لإقناع الجهات المعنية بحقنا في الماء”.
غادرنا نهج 15 أكتوبر وكلنا أمل أن يتم التحرّك الفعلي وبشكل مستعجل من أجل إمداد هذا النهج بالماء الصالح للشراب في أقرب وقت ممكن، وذلك باعتباره حقّا مكفول دستوريا وباعتبار أنّ كلّ دولة تعتبر نفسها ديمقراطية وتحترم دستورها يجب أن تحترم الحقوق الأساسية لمواطنيها وعلى رأسها الحق في الحياة باعتباره أهمّ حقّ من حقوق الإنسان. الحق في الحياة مرتبط بالوصول إلى الماء باعتباره ملكا مشتركا يقتسمه كلّ أفراد المجتمع، فهل يُعقل أن يظلّ هذا الحقّ حبرا على ورق الدستور؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحق في الماء يضمنه الدّستور التونسي:
الفصل 44: الحق في الماء مضمون. المحافظة على الماء وترشيد استغلاله واجب على الدولة والمجتمع.
الفصل21: المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريّات الفرديّة والعامة وتهيّئ لهم اسباب العيش الكريم.
الفصل22: الحق في الحياة مقدّس، لا يجوز المساس به إلاّ في حالات قصوى يضبطها القانون.
الفصل 12: تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، والتوازن بين الجهات استنادا إلى مؤشّرات التنمية واعتمادا على مبدأ التّمييز الإيجابي. كما تعمل على الاستغلال الرشيد للثروات الوطنية.
الفصل 13: الثروات الطبيعية ملك للشعب التونسي، تمارس الدولة السيادة عليها باسمه.
الحق في الماء من منظور دولي:
في نوفمبر 2002، أكّدت “لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” أنّ الحصول على كميات كافية من المياه للاستخدام الشخصي والمنـزلي حقّ أساسي من حقوق الإنسان مكفول للجميع.
وعرّفت هذا الحق باعتباره “الحق في كمية من الماء كافية ومأمونة، صحية وبجودة مقبولة… وميسورة التكلفة لاستخدامها في الأغراض الشخصية والمنزلية لكلّ فرد”.
كما أقرّت الجمعية العامّة للأمم المتّحدة عن طريق القرار 64\292، جويلية 2010 بأنّ “الحق في الماء والتّطهير حقّ من حقوق الإنسان، أساسي للتمتّع الكامل بالحياة وممارسة الإنسان لكلّ حقوقه”.
المفوّضيّة السّامية لحقوق الإنسان:
يجب أن تكون إمدادات المياه لكلّ شخص كافية ومستمرّة لتغطية الاستخدامات الشخصية والمنزلية، التي تشمل المياه لأغراض الشّرب، وغسل الملابس، وإعداد الطعام، والنظافة الصحية الشخصية والمنزلية.
ويتعيّن أن تكون المياه المستخدمة في الأغراض الشخصية والمنزلية مأمونة ومقبولة. فيجب أن تكون خالية من العناصر التي تشكّل تهديدا لصحّة الشّخص. ويجب تأمين الوصول المادي إلى مرافق المياه والصّرف الصّحّي وضمان أن تكون تلك المرافق على مسافة مأمونة في متناول جميع القطاعات السّكّانيّة، مع أخذ احتياجات الفئات الخاصّة بعين الاعتبار، ومنها المعوّقون والنّساء والأطفال والمسنّون.
ويجب أن تكون تكلفة خدمات المياه في متناول الجميع. وينبغي ألاّ يُحرم أيّ فرد أو جماعة من الحصول على مياه الشّرب المأمونة بسبب العجز عن دفع تكلفتها.
(تحقيق من إنجاز “لطفي الوافي”)