الآن وهنا تنفلت عاصفة الإحتجاجات الإجتماعية من عقالها وتضع البلاد على شفير أزمة مفتوحة على المجهول وكالمعتاد تواجه هذه الموجة بالإدانات حينا والمساندة أحيانا وبمحاولات التخفيف من وطأتها حينا آخر.
غير أن هذه الأزمة بدت مختلفة عن كل ما سبقها من أزمات فهي تأتي في مرحلة يفترض أنها موسومة بالديمومة والإستقرار بعد انتهاء مرحلة التأسيس.
جميع الإحتجاجات والأزمات المتصاعدة ( اضرابات – اضرابات جوع – اعتصامات …. ) سببها واحد ومطلبها واحد وهدفها وحد وهو البعد الإجتماعي ثالثة الأثافي التي كانت منطلقا للثورة.
انسداد الأفق أمام المحتجين بكل فئاتهم باحثين عن شغل أو منادين بتحسين أوضاعهم ولدى الغالبية الساحقة من المواطنين الذين يعانون من تدهور مقدرتهم الشرائية ولـّـد حالة من الإنكسار لدى المجتمع وحالة من الإحباط وخيبة الأمل إزاء هذه المرحلة ورموزها المناط بعهدتهم حكم بلادهم والذين عجزوا عن إعطاء حتى الأمل للخروج من الأزمة.
تعاطي الحكومة مع هذا المشهد هو السعي إلى حل هذه المعضلات لكن لسان حالها يقول أنه ليس لدي ما اعطيه للأفواه الجائعة، وهي صادقة فيما تقول.
هذا العجز ليس بجديد بل هو الخط الذي حكم سياسات الحكومات المتعاقبة من المسألة الإجتماعية خاصــة، ويعزى ذلك إلى قانون نوعــي تخضع له هذه الحكومة وهـــو ثنائية ” الإرتهان والنكران”.
إن الإئتلاف الحاكم ومن خلفه الحكومة لا يستطيع الإفلات من الإلتزامات التي ارتهن بها عشية انتخابات أكتوبر 2014، فالقوى السياسية التي تحكم اليوم جاءت إلى موقع الحكم بدعم قوي من رأس المال جزء كبير منه محل شبهات، في إطار تحالف بين هذين الطرفين توحدهما مصالح مشتركة ومنافع متبادلة.
ولما كان رأس المال هو الذي أوصل هذا الإئتلاف أو أغلب مكوناته على الأقل إلى سدّة الحكم فمن الطبيعي أن يكون الحكم معبّرا عن هذه المصالح وخادما أمينا لمن قاده إليه.
وبالنتيجة لا تملك الحكومة وهي من ذاك الإئتلاف إلا أن تلبي مصالح هذه الفئة وأن تكون في خدمة أجنداتها وتتنكر للمطالب الإجتماعية للطبقات الشعبية فمن الطبيعي أن تجد نفسها عاجزة عن الإيفاء بالحد الأدنى من مطالبها الإجتماعية.فالحكومة اختارت موقعها وحدّد لها دورها وانحازت للفئة التي قادتها إلى هذا الموقع والتزمت لها برعاية مصالحها التي ستكون بالضرورة على حساب أغلبية الشعب التونسي الذي يحتج لانتزاع حقوقه.تلك هي المعادلة التي تؤطر منظومة الحكم وجوهر العملية السياسية اليوم والتي تفسّر ما الذي يحدث وما العمل للتجاوز، وما عداها هو قضايا فرعية، إنه القفص الحديدي الذي وضع فيه العمل الحكومي ولن يستطيع الإفلات من مقتضياته وإن صدقت النوايا.
لكن هل هذه المنظومة هي قدر التونسيين المحتوم، بالتأكيد يكمن الجواب في قلب المعادلة المذكورة ليصبح انحياز الحكومة لأغلبية الشعب صاحب المصلحة الحقيقية في التغيير واتخاذ ما يتعين من قرارات وإجراءات لفائدته، لكن الإجراءات المؤلمة شرط لازم ينبغي أن يتحملها الطرف الآخر وليس الشعب الكريم، ولا بدّ من الخروج من منطق معالجة الأزمة بعقلية كلاسيكية لا تأخذ بعين الإعتبار الوضع الإستثنائي الذي يتطلب حلولا استثنائية غير كلاسيكية:
إصلاح جبائي عاجل يكرّس العدالة الجبائية الحقيقية ( مراجعة النظام التقديري – ضريبة على الثروة … ) بما يسهم في تعبئة مليارات الدنانير لميزانية الدولة ( حوالي 4 مليار دينار )
إعلان حرب حقيقية على الإقتصاد الموازي والتهريب الذي يبلغ حجمه نصف الناتج الوطني الخام
إعلان حرب ضد الفساد الصغير والكبير في القطاعين العام والخاص والذي ينخر الإقتصاد الوطني بما سوف يوفّر حوالي 3.5 مليار دينار
اتخاذ قرارات عاجلة وشفافة تتعلق بحسن توظيف عائدات الشركات المصادرة التي خضعت إلى العبث والفساد بما يوفّـر مليارات الدنانير لميزانية الدولة.
فتح ملف الطاقة والعقود المبرمة في الغرض في المرحلة الأخيرة بما يساهم في الإستفادة من الثروات الطبيعية المنهوبة.
غلق ملف رجال الأعمال الفاسدين من خلال إجراء صلح شامل معهم يقضي بتكليف كل رجل أعمال بإقامة مشروع تنموي بأحد معتمديات الجمهورية (265 معتمدية)
التفاوض مع المؤسسات المالية والدولية المقرضة لتونس لإرجاء تسديد الديون حتى تعافي الإقتصاد التونسي.
كما يتعيّن اتخاذ اجراءات اقتصادية استثنائية في المناطق الحدودية لقطع الطريق أمام إمكانيات توظيف حاجة السكان من أي كان وبما يحفظ أمن تونس ووحدة شعبها وسلامة أراضيها.
إننا على يقين أن الحكومة لن تقدر على تنفيذ أي بند من البنود المشار إليها أعلاه لأن قرارات الحكومة تتخذ في ضوء التزامات الإئتلاف الحاكم المشار إليها وأن قرارات الإئتلاف الحاكم تصاغ بقدر عدم المساس بمصالح الأطراف المالية الداعمة له أثناء الإنتخابات فهو مدين لأولياء نعمته لا يستطيع شق عصا الطاعة أمامهم وهذا ما سوف يبقى الحال على ما هو عليه لتتضاعف الأزمات والإحتجاجات.
لن تتخذ قرارات ثورية ضد الفساد ولا ضد المهربين ولن تفتح ملف الطاقة ولن تكرّس العدالة الجبائية ولن توقف عبث اللصوص بمقدرات شعبنا ولن تقدر على اتحاذ أي إجراء يسهم في حل الأزمة ويؤذي مصالح أصحاب المال والأعمال بل أن الحلول الأيسر هي مزيد من التداين ومزيد من اجراءات التقشف ومزيد من دفع المواطنين نحو اليأس.
أعتقد أن القوة السياسية المؤهلة إلى ان تلعب هذا الدور المفقود في هذه المرحلة هي الجبهة الشعبية، لكن هذا يتطلب توفر جملة من الشروط والضمانات للإضطلاع بهذه المهمة، فهي مطالبة اليوم بأن تطرح على الرأي العام الوطني هذه النقاط السبع كمخرج وحيد لما تردت فيه تونس من أزمات طاحنة ولتكون هذه النقاط هي محور لنضالاتها .
فالواقع الموضوعي وما يطرحه من معضلات ذات الصلة بالوضع الإقتصادي والإجتماعي للبلاد يجعل من الجبهة الشعبية الطرف المؤهل للإضطلاع بهذا الدور وإن كانت في المعارضة بحكم انحيازها المعلن للفئات المنتفضة والتي أدارت لها الحكومة ظهرها، وموقفها الواضح من الإئتلاف الحاكم والقوى الداعمة له والمتحالفة معه.
لكن السؤال المطروح هل أن الجبهة الشعبية بدورها جاهزة اليوم لأداء هذه المهمة وإن توفرت ظروفها الموضوعية.
أعتقد أن معضلة الجبهة الشعبية الرئيسية هي تأخر العامل الذاتي عن العامل الموضوعي، فالواقع المأزوم للبلاد يجعلها مرشحة للدور المطلوب وإعطاء رسائل أمل إلى الشعب المظلوم غير أن واقع الجبهة يعاني من كثير من الهنات تحول دون ذلك.
فالتأخر الذي لازم الجبهة ليس تنظيميا فقط بل أن الجانب السياسي يشهد بدوره حالة من الوهن ولعل أخطرها عجز الجبهة عن تقديم هذه المحاور إلى الرأي العام في صيغة برنامج حكم حتى وإن كانت في المعارضة ليتم في ضوئه القيام بعملية فرز تاريخي، بين مختلف القوى السياسية والمشاريع الوطنية وفتح آفاق للتغيير أمام الشعب تخرجه من حالة اليأس والإحباط.
وقبل ذلك فإن الجبهة الشعبية مدعوة بحسم خطها السياسي بصفة جذرية وذلك بتحديد الموقف الواضح من مكونات الائتلاف الحاكم وتحديد جبهة خصومها وجبهة أصدقائها وبدون لبس وتحديد دور الجبهة الشعبية وموقعها اليوم وغدا.
من المهم أيضا الإتفاق بين قيادات الجبهة ومكوناتها على تحديد أولويات المرحلة والسلوك السياسي للجبهة والتي ليست محل اتفاق بين الكثير منهم لاختلاف واضح بينهم في التقديرات والأجندات والإنتظارات من الجبهة.
وأخيرا لا بدّ من اعتبار العمل البرلماني بالنسبة للجبهة مجرد مجال من مجالات الفعل السياسي مما يحتّم فتح آفاق أرحب لهذا الفعل والإنغراس أكثر في صلب المجتمع.
أما كيفية تجسيم هذه التصورات فذلك حديث آخر.
ــــــــــــــــــــــــــ
بقلم :محمد زهير حمدي الأمين العام للتيار الشعبي وعضو مجلس أمناء الجبهة الشعبية