أعطت الحكومة ممثلة في وزارة التربية اشارة انطلاق الاستشارة الوطنية حول إصلاح المنظومة التربوية يوم 23 أفريل 2015 الجاري. ورغم انقضاء قرابة ثلاث أسابيع ، فالملاحظ هو غياب أي عمل جدّي يؤكد بداية هذه الاستشارة. حيث غاب عن الحفل الرسمي، الذي انعقد بقصر المؤتمرات بالعاصمة لإعلان انطلاق الاستشارة، رئيس الدولة و رئيس الحكومة والأغلبية الساحقة من أعضائها. وهو غياب ما كان له أن يكون، فمن المفترض أن تكون هذه الانطلاقة تكون مسنودة من كل الاطراف المعنية بالشأن التربوي وفي مقدمتها الدولة بمختلف اداراتها وأجهزتها. وذات الملاحظة تهمّ فعاليات المجتمع المدني والسياسي، التي خلافا لبعض الانشطة السابقة عن23 أفريل والتي نظمتها نقابات القطاع التربوي باتحاد الشغل، والمعهد العربي لحقوق الانسان، فان شيئا ذي بال لم يُنظّم. وهذه الاشارة نريد من خلالها التنبيه الى كون الجميع مدعوّ الى الاشتغال على هذا الملف وتقديم مقاربته فيه، فالشأن التربوي هو شأن مجتمعي يهمّ الجميع، والخوف هو أن تستفرد الحكومة بهذا الملف لا بإقصاء منها بل بغياب من المجتمع.
حول منهجية الاستشارة
لقد أعلنت وزارة الإشراف أنها ستقيّم مسارات متوازية لتشريك الأطراف المعنيّة. فخصّصت ساعة نقاش مع التلاميذ في أقسامهم لإبداء آرائهم، ثم نظّمت حوارات جهوية لحوصلة الآراء، توازيا مع عمل اللجان العلمية والفنية التي تقوم بالدراسات المقارنة وتحوصل الآراء. إنّ هذا التّوجّه يبقى في اعتقادنا قاصرا بحكم جملة من المؤثرات من بينها أنّ توقيت هذا العمل غير مناسب بالمرّة بحكم تزامنه مع نهاية العام الدراسي بما يعنيه من امتحانات وعسر في تنظيم أعمال جدية حول ملف مصيري ومحوري، فالتلاميذ الذي نودّ تشريكهم، أولا أغلبهم يقاطع الدروس بعد تمزيق دفاتر المناداة وحصر الحضور هذه المدة على حصص الفروض. إضافة إلى كون جزء مهمّ من تلاميذ المعاهد محروم من الدروس بحكم تخصيص أغلب القاعات لامتحانات الباكالوريا التجريبية، إضافة إلى كون النقاش في القسم سيتمّ بتأطير من أستاذ قد يكون هو ذاته في حاجة إلى تأطير بحكم غياب الجدل والمشاركة طيلة العقود الماضية، وإلى غياب آلية موحّدة لطرح الموضوع، فضلا عن كون الاستشارة ذاتها كان من الأجدى أن تنطلق مع المعلمين والأساتذة والإداريين والعملة في إطار ندوات قطاعية تشتغل في شكل ورشات تهمّ كلّ سلك على حدة، ثم كل اختصاص على حدة، تشفع بندوة جهوية قطاعية ثم عامة تخرج بتوصيات، يكون ذلك تحت إشراف الأطراف الراعية، يتزامن ذلك مع ندوات محلية وجهوية تكون مفتوحة للعموم بما في ذلك المنظمات والأحزاب التي بدورها عليها تنظيم ندوات لبلورة مقترحاتها. وفي غياب الإعلام والنقاشات حول الموضوع فإنّ متابعة الرأي العام ستكون محدودة وغائبة وهو أمر لن يكون في صالح إصلاح المنظومة التربوية التي آن الأوان كي ينتظم حولها حوار مجتمعي حقيقي وواسع يشارك فيه الكلّ تأكيدا لكون التربية والتعليم هو شأن كلّ الشعب. هذا الشعب الذي ضحّى ويضحّي بالعرق والجهد من أجل الحفاظ على المدرسة العمومية التي لا يختلف اثنان في تونس أنّ وضعها كارثي على كلّ الصّعد. إنّ تعميق الاستشارة وتعميمها وتشريك الشعب فيها وتنظيم ورشات التفسير والتفكير والجدل والاقتراح في كل شبر من أرض تونس هو تأكيد على كون التعليم هو تحدي من تحديات الحاضر والمستقبل، يحدّد اتجاهات تطوّر مجتمعنا وبلادنا، فالمجتمعات تبني رقيّها وتطوّرها على العلم والمعرفة، لذلك لابدّ من مراجعة منهجية الاستشارة التي من المفترض تمديها إلى متسع من الوقت يكون كاف لتشريك أكثر ما يمكن من الأطراف فيها، مع ضرورة الاتفاق على قيمة هذه الاستشارة وأهمية الحوصلات التي ستنتهي إليها. فالتخوّف كبير عند عديد الأطراف أن تكون الاستشارة شكلية وأن تتفرّد الوزارة والحكومة باتّخاذ القرارات.
إنّ مثل هذا التوجه يمكن أن ينسف أي إمكانية لإصلاح الوضع التربوي في بلادنا. فالخوف جدّي حول كون المحدد في الخيارات في نهاية المطاف لن يكون حتى الحكومة ذاتها بل سيكون كما كان سابقا الجهات المموّلة وتحديدا صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بما يضع محلّ تساؤل وتشكيك مجمل هذا الجهد؟ لذلك نحن ندعو إلى اعتبار هذا الملف ملفا سياديا لن يُطبّق فيه إلاّ ما اتفق عليه التونسيون. وهذا قرار سياسي يجب أن يضغط المجتمع المدني والنقابات والأحزاب الوطنية من أجل استصداره واعتباره مرجعا ومؤطرا لمجمل الأعمال التحضيرية والتنفيذية لإصلاح المنظومة التربوية.
حول تشخيص المنظومة: منطلقات للتقييم
لا يختلف تونسيان في ما آل إليه وضع التربية والتعليم في بلادنا، ولا أدلّ على ذلك من كون عدد المنقطعين تجاوز سنة 2013/2014 الـ100 ألف تلميذ من مختلف مستويات التعليم، وهو كارثة وطنية بكل المقاييس، يتوازى ذلك مع تراجع مريع للمستوى العلمي للشهادات المسندة وهو ما تؤكّده مختلف التقارير السنوية المختصّة التي تتفق في وجود جامعاتنا وشهاداتنا في أواخر سلم الترتيب. كل ذلك في إطار تصاعد سوء أوضاع المدرّسين المادية والمعنوية كجزء من سوء أحوال المدرسة العمومية من جهة البنية الأساسية والقدرات التأطيرية والتسييرية. ولا غرابة في الأمر فنصيب وزارة التربية من الميزانية العامة لا يتجاوز 13% من ميزانية 2015 يخصص جانبها الأكبر لأجور الموظفين. إنّ وضعا كهذا يحوّل المدرسة إلى فضاء منفّر بل وإلى فضاء لاستشراء العنف بأشكاله بما فيه الموجّه ضدّ إطار التدريس أو تجاه الذات (20محاولة انتحار في صفوف الأطفال في شهر أفريل 2015)، واستهلاك وترويج المخدرات.
إنّ المدرسة هي جزء من المجتمع، والمجتمع مريض بحكم انشار الفقر والحرمان والتهميش وتقهقر منظومة القيم التي عوّضتها القيم المادية الاستهلاكية. ولم تعد المدرسة كما كانت في الستينات والسبعينات سلّما للارتقاء الاجتماعي بل أصبحت أكبر منتج للمعطّلين. كما كفّت المدرسة عن دورها الثقافي والإبداعي في إطار سياسة منهجية لتدمير العقول وتدجينها عرفت ذروتها في عهد الدكتاتور بن علي الذي سخّر كلّ إمكانيات نظامه لتهميش التعليم لخدمة أهدافه بخلق إنسان لا يفكّر. وقد لعب ضعف المناهج والمضامين واتجاهها التجريبي في التعليم الأساسي (الكفايات والروائز- الإبقاء على السيزيام وإلغائها – النوفيام مناظرتها إلزامية ثم اختيارية…)، تجربة التعليم الإعدادي (الجذع المشترك) ونظام التوجيه المعتمد، والتلاعب بالضوارب وحجم المواد والبرامج ومضمونها بما غذّى النزعة التلقينية في الفضاء المدرسي والدروس الخصوصية خارجه. يتساوق ذلك مع تراجع التأطير وانعدامه بالنسبة لإطار التدريس وعدم انتداب العدد الكافي منهم في إطار الضغط على المصاريف بما في ذلك تجاوز عدد التلاميذ في الفصل الواحد ما هو مسموح به بيداغوجيا وقانونيا واعتماد طريقة مستويين في قاعة واحدة (ما يُسمى السكسيون).
إنّ هذه الحقائق التي لم نفصّل فيها القول بحكم كونها حقائق موضوعية دامغة، يمكن بل يجب أن تُشكّل منطلقا لتشخيص جماعي لواقع المدرسة والتعليم في بلادنا، في اتجاه بلورة البدائل التي يصبو إليها شعبنا.
( علي الجلّولي: عضو لجنة مركزية لحزب العمّال)