كشفت الإضرابات التي خاضتها قطاعات التعليم الثانوي والأساسي والصحة… والاحتجاجات الشعبية بالحوض المنجمي والفوار. .. عن عداء كبير تضمره حكومة الحبيب الصيد تجاه هذا الحراك بدعوى أنه يضعف جهودها في محاربة الإرهاب، وإنّ إمكانيات البلاد لا تسمح بزيادات في الأجور أمام ارتفاع معدلات البطالة ومنسوب المديونية وتعطل الاستثمار أو الاستجابة إلى مطالب الجهات – الحوض المنجمي – باقتطاع جزء من عائدات الفسفاط وتوجيهه للتنمية بقفصة والفوار بتشغيل المعطلين وتنمية الجهة التي تعتبر أكثر حرمانا من نظيراتها في الوطن.
لقد انطلقت أبواق دعاية الحكومة في تشويه المدرّسين وأعوان الصحة ووصفت مطالبهم بالمشطة والقطاعية الضيقة وراح الطامعون والسماسرة يشيطنون القطاعات المضربة ودعوا بكل صلف إلى ضرورة تطبيق القانون وفرض هيبة الدولة ووصفوا الحكومة بالمترددة والمتسامحة. ونشطت كلّ أساليب التشويه والشيطنة لتحركات أهالي الحوض المنجمي والفوار. واتهمت أطراف سياسية بأنها تقف وراءها دون أن تأخذ في الحسبان أنّ مساهمة هذه الجهات وغيرها في الثورة جاءت على خلفية تحقيق هذه المطالب.
منظمة الأعراف انخرطت بدورها في هذا الصخب المعادي للحرية وللحق في النضال السلمي وذلك من منطلق الدفاع عن مصالح منظوريها حتى يواصلوا استغلالهم للشغالين ويكدّسوا الأرباح دون الاستجابة إلى الحقوق الأساسية للعمال ودون المساهمة في إثراء الخزينة العامة للدولة بما يغنينا عن الاقتراض والتداين الخارجي.
لقد انقسمت البلاد الى معسكرين الأول تقوده الحكومة مسنودة من لوبيات الاعلام ورجال الاعمال وبعض خبراء الاقتصاد من التكنوقراط والثاني تمثله القطاعات العمالية والجهات المهمشة مسنودة من الاتحاد العام التونسي للشغل ومن الجبهة الشعبية وبعض القوى المدنية والديمقراطية.
أصل الخلاف:
لابدّ من توضيح مسألة مهمة وهي أنّ القطاعات المذكورة لم تقتصر مطالبها على الزيادات في الأجور وتحسين القدرة الشرائية وهي مطالب مشروعة، بل أردفتها بمطالب أخرى لا تقل أهمية وتتمثل في المطالبة بالتعليم الديمقراطي والمجاني والإجباري وبمراجعة الزمن المدرسي والبرامج ومناهج التعليم بما يساعد على تكوين جيل من المفكرين والمبدعين وأخرى تتعلق بالصحة المجانية وتطالب بتوفير التجهيزات والمعدات الضرورية والإطارات المختصة والكفأة في كل المستشفيات العمومية.
كما أنّ جهات الحوض المنجمي والفوّار هي الأكثر فقرا وتسجّل أعلى نسب البطالة والتهميش. وتشكّل جيواستراتيجيا الواجهة الأمامية لحماية أمن البلاد. ولا نعتقد أنها قادرة على لعب هكذا دور وهي تعيش مثل هذه الأوضاع.
وعلى خلاف ما تذهب إليه النقابات وما تراه ضروريا ليس لمنظوريها فقط بل لكل أبناء الشعب وما ترتئيه الجهات المحتجة من أولويات، فإنّ الحكومة تتجه أكثر نحو الخصخصة وإعفاء الدولة من لعب دورها في توفير التعليم العمومي والصحة المجانية للأغلبية المفقّرة والتنمية والتشغيل للجهات الأكثر تهميشا. الحكومة تريد صحة وتعليما للأغنياء وخدمات متردية وهزيلة للفقراء ولا ترى نفسها مطالبة بمعالجة قضايا البطالة والفقر المدقع عملا بتعليمات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.
الخلاف لا يتعلق إذا بمجرد زيادات في الأجور وتشغيل المعطلين الذين طالت بطالتهم بقدر ما يتعلق بمشروع مجتمعي برمّته. ففي حين تتعاطى الحكومة مع مطالب النقابات والجهات من زاوية كلفتها المادية وتأثيرها السلبي على الموازنات المالية وقدرتها على خلاص ديونها، فإنّ الطرف الثاني يسبق البعد الاجتماعي والحقوق الأساسية التي تضمنها مواثيق حقوق الإنسان والدستور التونسي وتلبية المطالب التي ثار من أجلها التونسيون ضد نظام بن علي حتى ولو تطلّب الأمر مراجعة المنوال التنموي بما ينسجم وروح ثورة الحرية والكرامة.
ما الحل؟
إن الاستجابة الجزئية لبعض المطالب القطاعية والجهوية هي مجرد مسكنات وتأجيل للحلول الجذرية التي تضمن الاستقرار والعيش الكريم للأغلبية. والاكتفاء بهكذا حلول سيعيد في القادم من الأيام نفس هذه القطاعات والجهات وغيرها إلى تحركات احتجاجية جديدة كلما أحست بأنّ ما أخذته باليمنى سحب منها باليسرى. الحكومة قدمت تنازلات جزئية الى حين ترتيب بيتها واعداد العدة لانطلاقة اقتصادية جديدة تختزلها في تدفق الاستثمارات الأجنبية والداخلية وانتعاش السياحة وتنامي منسوب الصادرات – وهي اهداف لا تتحكم فيها- والرفع من جاهزية مؤسساتها القمعية حتى تلعب دورها في ضبط كل أشكال الاحتجاج مهما كانت سلمية. وهي تعد لذلك ترسانة من القوانين الجائرة (قانون المجلس الأعلى للقضاء-قانون مكافحة الإرهاب- قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين والقوات المسلحة…) محاولة استغلال اغلبيتها البرلمانية بعد تشكيل حكومة التحالف الطبقي الرجعي لتمريرها.
أعتقد أنّ الحل الحقيقي يتمثل في مراجعة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية وتحمل الدولة لمسؤولياتها في التنمية الجهوية والمحلية والتركيز على القطاعات المنتجة (الصناعة والفلاحة) والاستراتيجية التي من شأنها خلق الثروة ومعالجة معضلة البطالة وضمان الخدمات الأساسية للاغلبية. مثلما يتمثل في مراجعة الجباية في اتجاه أكثر عدلا ومقاومة التهريب والتهرب الجبائي والحد من الاقتراض والتداين من الخارج والاستعاضة عن ذلك بإحداث ضريبة استثنائية على الثروات الكبرى وتأجيل دفع الديون والمطالبة بالتدقيق الذي يضمنه القانون الدولي…
إنّ هذه الحلول ممكنة وتنسجم مع روح الثورة التي قام بها الفقراء الذين ازداد فقرهم واستغلها كبار الأثرياء الذين ازدادوا غنى.
من هذه الزاوية تتقاطع الجبهة الشعبية مع المطالب النقابية والجهوية باعتبارها تفتح الطريق نحو مراجعات جذرية من شانها معالجة معضلة الهشاشة الاقتصادية والارتهان لدوائر النهب العالمي وإرساء اقتصاد ديمقراطي شعبي قادر على تلبية انتظارات المفقرين والمهمشين.
إنّ مطالب العمال والجهات المحرومة هي جزء لا يتجزّأ من استحقاقات ثورة الحرية والكرامة وتحقيقها ليس منة من هذه الحكومة أو تلك ويتطلب معالجة جدية لمعضلة المنوال التنموي. فهل ستقدر حكومة الحبيب الصيد على مراجعته؟
المؤشرات الأولى تؤكد خلاف ذلك فالرباعي الحاكم وافق على ميزانية التقشف التي أُعدت في دهاليز صندوق النقد الدولي دون تحفظ والأطراف الرئيسية في الحكومة لها تجربة في الامتثال لمثل هذه الاملاءات الخارجية وتطبيق الوصفات الجاهزة باعتبارها من زاوية نظرها الطبقية أيسر الحلول وأفضلها… وقد سعت حكومة الصيد مبكرا إلى قمع الاحتجاجات السلمية التي اندلعت في الجنوب الشرقي (بن قردان- ذهيبة…) لكنها فشلت وتراجعت وتلكّأت في معالجة أسباب تعطل الإنتاج في شركة فسفاط قفصة التي تتطلب جرأة سياسية وقرارات ثورية قبل أن تتقدم بحلول مبتورة لا تستجيب إلى مطالب الأهالي. وهي تعد العدة للتفويت في الأراضي الدولية – من خلال استشارة شكلية – بنفس الأساليب القديمة بدل توزيعها على صغار وفقراء الفلاحين وعلى الشباب من أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل.
حكومة الحبيب الصيد لا تحرك ساكنا إزاء التهرب الجبائي وانفلات الأسعار وتواصل سياسة الاقتراض العشوائي لا لدفع عجلة التنمية بل لتغطية نفقاتها.
لكل هذه الأسباب يتحدث الكثيرون ومن بينهم الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل عن إمكانية ثورة اجتماعية قادمة وهو أمر منتظر وممكن الحدوث مادامت الأسباب الموضوعية متوفرة.
المسار الثوري مازال مفتوحا على كل الاحتمالات وعلى الجبهة الشعبية تحمّل مسؤولياتها باعتبارها البديل الوحيد القادر على معالجة أوضاع البلاد معالجات جذرية.
(علي البعزاوي: عضو لجنة مركزية لحزب العمّال)