الأحد 24 ماي، اسبانيا تعيش على وقع الانتخابات البلدية والجهوية
مساء الأحد 24 ماي، ولمّا بدأت النتائج الأوّلية للانتخابات البلدية والجهوية في الظهور رويدا رويدا، كانت شوارع المدن الاسبانية وخاصة منها مدريد وبرشلونة تمتلئ بالحشود التي خرجت للتعبير عن فرحتها بالتغيير الحاصل في البلاد، إذ أنّ هذه النتائج الأولية وإن لم تضع حزب “بوديموس” حديث النشأة في المرتبة الأولى، إلا أنّها أعلنت بصفة لا مجال للشكّ فيها انتهاء القطبية الثنائية وتدحرج الحزبين التقليديين اللذين جثما على صدر الشعب الاسباني قرابة الأربعين سنة أي “الحزب الشعبي” المحافظ و “حزب العمال الاشتراكي” اللذين تداولا على السلطة خلال كامل الفترة المذكورة، وهو ما يفتح المجال أمام القوى الجديدة وخاصة منها حزبي “بوديموس” (قادرون) اليساري و”تيوتادانس” (مواطنون) الذي يتموقع في وسط اليمين من المشاركة من مواقع متقدمة في إدارة الشأن العام بالبلاد.
الأحزاب التقليدية تخسر أغلبيتها المطلقة
وبلغة الأرقام، فإنّ الحزب الشعبي المحافظ والحاكم منذ فوزه في الانتخابات العامة لسنة 2011، حتى وإن حافظ على المرتبة الأولى في عديد المواقع، إلا أنّه خسر ما لا يقلّ عن مليوني و550 ألف صوت في الانتخابات الحالية مقارنة بالتي سبقتها. وكذلك الشأن بالنسبة لحزب العمال الاشتراكي الذي خسر بدوره 775 ألف صوت. كما أنّ الحزب الشعبي خسر الرئاسة في 10 جهات من الـ 13 التي تمت فيها الانتخابات، وخسر كذلك أغلبيته المطلقة في بلدية العاصمة مدريد وهي من المواقع التقليدية لهذا الحزب أمام قائمة “مدريد الآن” التي من المرجّح أن تفوز رئيستها القاضية مانويلا كارمينا الملقّبة بـ “الحمراء” برئاستها وهو ما يعتبر “زلزالا” فعليا في السياسة الاسبانية حسب تعبير معظم الصحف الصادرة صباح الإثنين.
ولم يقتصر هذا الفوز على العاصمة مدريد وحدها، بل حصل نفس الأمر في مدينة برشلونة، ثاني كبرى المدن الإسبانية حيث تصدّرت هنالك أيضا القائمة المواطنية ” التي تقودها الناشطة “أدا كولو” وهي من أبرز وجوه المجتمع المدني في المدينة وزعيمة الحركة المناهضة لطرد السكان العاجزين على دفع الإيجار من مساكنهم، وهي قائمة ساندتها زيادة على حزب “بوديموس” قوى يسارية وبيئية عديدة. وقد ارتكز برنامجها الانتخابي على نقطتين رئيسيتين: العدالة الاجتماعية ومقاومة الفساد. وقد صرّحت بعد فوز قائمتها بـ 21 مقعدا “إنّنا بينّا من خلال حملتنا أنّه حتى بدون سلطة إعلامية، ولا اقتصادية ولا قانونية أنّه بإمكاننا أن نقوم بأشياء كبيرة بصفة مغايرة أي بالتعويل فقط على الحلم والأمل”
بوديموس تعتمد تكتيكا هجوميا
وممّا يلفت الانتباه أنّ تكتيك “بوديموس” في هذه الانتخابات وهي الأولى التي يخوضها منذ تأسيسه كان تكتيكا هجوميا، إذ هو لم يطرح الفوز في بعض البلديات الصغرى والمتوسطة فقط من بين الـ 8211 بلدية التي تمّ تجديد مجالسها، بل هو توجّه رأسا إلى المواقع التقليدية للرجعية وهاجمها في عقر دارها أي في كبرى المدن الاسبانية، فهزم الحزب الشعبي في العاصمة مدريد والتحالف اليميني الكاتالاني في برشلونة. وما شعار القائمة التي ساندها بمدريد إلا دليل على ذلك. فشعار “مدريد الآن” وليس غدا وليس مستقبلا كاف للتعبير عن عمق النضج التكتيكي لدى هذا الحزب. وممّا جعل هذا الفوز ممكنا كذلك هو نجاح بوديموس في تجميع قوى عديدة إضافية حوله. إذ أنّ “بوديموس” مثله مثل سيريزا اليوناني ليس حزبا بالمعنى التقليدي للكلمة بل هو “حزب/جبهة” في ذات الوقت لكنه فتح قائماته بمناسبة الانتخابات الأخيرة إلى وجوه غير منضوية في صلبه لكن لها من النضالية والإشعاع ما يجعلها تأتي بالقيمة المضافة إلى قائمات بوديموس أو القائمات التي يدعمها.
وكانت استطلاعات الرأي المنشورة في الأشهر الأخيرة قد أشارت إلى إمكانية حصول هذه القوى الجديدة على نتائج هامّة في الانتخابات البلدية والجهوية، خاصّة بعد انتصار سيريزا في اليونان الذي أعطى دفعا معنويا لا يُقدّر بثمن لحزب “بوديموس” وأنصاره، إلا أنّ الصحافة البورجوازية كانت تسعى دوما للتقليل في حجم هذه النتائج المحتملة وتضع الأحزاب التقليدية في صدارة الترتيب. واليوم وقد أكّدت النتائج تقدّم بوديموس وحصوله على المرتبة الثالثة من حيث عدد الأصوات إلا أنّه، بهذا الموقع فهو يملك بين يديه مفاتيح اللعبة من خلال التحالفات التي عليه عقدها لضمان الصدارة في عديد البلديات والجهات، وقد أقرّ زعماء حزب العمال الاشتراكي بهذا التحوّل الحاصل لدى عموم الناخبين واستخلصوا أنّ الشعب الاسباني ملّ سياسات التقشف المفروضة عليه واختار وجهته نحو اليسار، وفي هذه التصريحات مغازلة لقادة بوديموس وإيحاء لتحالفات ممكنة هنا وهناك لسدّ الطريق أمام غريمه التقليدي الحزب الشعبي الذي رغم هزيمته وفقدانه لأهمّ مواقعه يبقى الحزب الأوّل من حيث عدد الأصوات المحرز عليها والتي تقدّر بـ 27 بالمائة من جملة الأصوات المصرّح بها.
والآن… نحو الانتخابات التشريعية
وممّا لا شك فيه أنّ جميع الأحزاب التي شاركت في الانتخابات البلدية والجهوية، على أهميتها، إذ أنّ اسبانيا من بين الدول التي تتمتع فيها المجالس الجهوية والإقليمية المنتخبة بصلاحيات هامّة في عديد المجالات ليس أقلّها الصحة والتعليم، إنّ هذه الأحزاب كانت ترنو إلى الانتخابات العامّة التشريعية التي ستدور في نوفمبر المقبل والتي تعتبر الانتخابات الحالية “بروفة” لها لقياس حجمها وإشعاعها وتعديل أوتارها حسب المزاج الجديد للناخبين. وقد صرّح بابلو ايكليزياس زعيم حزب بوديموس تعليقا على نتائج الانتخابات البلدية أنّ التحوّل الذي تشهده اسبانيا هو تحوّل بلا رجعة.
بقلم الدكتور مرتضى العبيدي