لم يعد سرا أن وضعنا الاقتصادي يمر بمرحلة جد صعبة، و أن كل المؤشرات المرتبطة بالإنتاج و النمو في تراجع حاد، مما يؤشر على أن البلاد مقدمة على مرحلة حرجة سيكون طبعا المواطن هو من سيدفع فاتورة هذا الوضع الناجم عن سياسات خاطئة وخيارات لا تستجيب لأبسط متطلبات المرحلة.
في ظل هذه الظروف، يحل شهر رمضان على المواطن التونسي وهو يصارع مع ما تبقى من قدرته الشرائية التي دمرتها ماكينة الأسعار التي لم تتوقف عن الصعود منذ أكثر من 6 سنوات متتالية، إلى درجة أن الأسعار المرجعية للمواد الفصلية لم تعد ذي معنى.
و هو أمر عادي بعدما حررت الدولة أكثر من 90 بالمائة من أسعار المواد، و لم تضبط إستراتيجية وطنية للمراقبة، و لم تضع خطة لتعديل الأسعار عبر تدخلها المباشر في حال تواصل ارتفاعها، كل ذلك في إطار سياسة النعامة التي توختها كل الحكومات المتعاقبة منذ 14 جانفي إلى الآن، تحت شعار السوق يعدل نفسه من خلال العرض و الطلب.
ولكن وأمام تواصل تراجع الإنتاج وتعطل محركات الاقتصاد الأساسية من فلاحة وصناعة، وانتشار التهريب على كل المستويات، والذي أصبح أكثر تنظيما من الدولة، فان مقولة السوق يعدل نفسه تسقط في الماء، و تجعل من الدولة في مثل هذه الظروف الاستثنائية مطالبة بالتدخل والتحكم في مسالك التوزيع و ضرب الاحتكارات والمضاربات و”التهريب المقنن” من أسواق الجملة والموزعين للمواد الاستهلاكية.
وحتى نكون أكثر إنصافا، فانه وجب القول أن الفترة الأخيرة و خاصة خلال شهر ماي، تراجعت أسعار بعض المواد و خاصة الخضر و بعض الغلال، و لكن هذا التراجع مرده تراجع حاد في مؤشرات الاستهلاك والطلب الداخلي، كنتيجة مباشرة لتدهور المقدرة الشرائية المرتبطة بعدم تطور الأجور لأكثر من ثلاث سنوات متتالية.
ولكن ومنذ الأسبوع الأول من شهر جوان، و بسبب قرب شهر رمضان، و تحت تأثير الجوقة الحكومية الدعائية المتمركزة حول تخزين المواد و دعم الاحتياطات التعديلية لبعض المواد، و التقليص من تصدير بعضها، و الحديث عن توريد كميات كبيرة من اللحوم الحمراء، و غيرها من الحملات الدعائية المجانية الحكومية و غير الحكومية حول الاستهلاك الرمضاني، فإن هذه الحملات تعطي دائما نتائج عكسية، فعوض أن تطمأن الناس فإنها تدفعهم للشراء بلهفة مما يقلص من العرض و بالتالي تتدخل عصابات الاحتكارات والمضاربة و البيع المشروط وغيرها من أساليب سوق الاستهلاك، والنتيجة المباشرة الارتفاع العام و المتواصل والمشط للأسعار و لجل المواد الاستهلاكية.
كما انتشرت مظاهر أكثر خطورة خلال هذه الفترة و المتمثلة في تسويق السلع و المواد الفاسدة والمنتهية صلوحيتها، و خاصة المواد الغذائية و اللحوم، و هي مسألة في غاية من الخطورة، لأنها مرتبطة بصحة المواطنين، و لعل شهر رمضان و ما يرافقه من فوضى الانتصاب، حيث تتحول كل مناطق لبلاد إلى أسواق مفتوحة، سيكون فرصة لتجار الموت و البضائع الفاسدة لترويج سلعهم، أمام ضعف الدولة و أجهزتها الرقابية، و في إطار عقلية الاستهلاك المفرط و ثقافة الأكل التي تحكم سلوك الصائم في تونس.
فتحول شهر رمضان بهذه الوضعية، و منذ سنوات من شهر للعبادة و سمو الروح و غيرها من المشاعر الدينية، إلى شهر للاستهلاك المفرط، في إطار ثقافة مدروسة لمجتمع الاستهلاك. و دفع بكل شرائح المجتمع الفقيرة منها قبل الغنية إلى هذه الثقافة بدعم مدروس و مباشر من ماكينات الإشهار التي تزدهر خلال هذا الشهر كداعمة لهذه السلوكيات و محفزة عليها، كل ذلك في إطار مسار اقتصادي ليبرالي قائم على اقتصاد السوق و تحويل المجتمع إلى فضاء للاستهلاك الجماعي وفق ما ينتج له لا وفق احتياجاته هو الحقيقية و المرتبطة بإمكانياته المادية و مقدرته الشرائية.
و لكن المشكل لا يتوقف عند هذا الشهر، بل أصبحت الأسعار المرتفعة بسبب الاستهلاك خلاله، تتواصل إلى الأشهر التي تليه، حيث أنها تصبح أسعار مرجعية للمواد تعود عليها المستهلك، وبالتالي لا موجب موضوعي لتخفيضها في ظل تراجع كلي لدور الدولة التعديلي في هذا المجال، لذلك أصبحت الأسعار ترتفع بسبب قرب شهر رمضان في إطار من الاحتكارات والمضاربات و اللهفة الاستهلاكية المرضية، و تواصل ارتفاعها بعده لتعود السوق عليها. و بالتالي وضع السوق قواعد جديدة للأسعار انطلاقا من ثقافة الاستهلاك غير الواعي وغير المرتبط بالإمكانات الموضوعية للبلاد و للشعب و خاصة للفئات الفقيرة والمتوسطة التي أصبحت أكثر ضحايا هذا المنطق الأعرج لبلد يستهلك أكثر مما ينتج.
و أمام تواصل هذه المظاهر السرطانية التي تنخر مقدرات الشعب و إمكانياته المعيشية التي لم تعد تفي بالحد الأدنى المطلوب ليبقى على قيد الحياة، و بعد فشل كل الحكومات المتعاقبة في الحد من ارتفاع الأسعار وإيجاد آليات تعديلية لمقاومة منطق السوق وفق تصورها الليبرالي، هل يكفي أن نحمل الحكومة المسؤولية؟ رغم إيماننا بعجزها، إن لم نقل أنها متناسقة مع تصوراتها في الموضوع، ونترك الأمور على ما هي عليه، تستفيد منها عصابات التهريب و المضاربات والمحتكرين والمتاجرين بقوت الناس والممتهنين لتجارة الموت والمواد الفاسدة و المنتهية الصلوحية ؟
وهل يكفي أن نحلل و نشرح الأسعار وأسباب ارتفاعها و تأثيراتها على المقدرة الشرائية للمواطن. ليجد هذا الأخير نفسه مدفوعا بحاجياته وبمنطقه الاستهلاكي اللاواعي للانخراط مجددا في منظومة الشراء و الطلب، مما يرفع آليا في الأسعار مرة أخرى؟
إن المرحلة التي وصلت إليها البلاد على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي، و أمام تدهور ما تبقى من المقدرة الشرائية للمواطن، فانه وجب إحداث تغيير جوهري في المقاربة حول ملف الأسعار وارتفاعها الجنوني، ولئن لا يمكن خلال هذه المقاربة إعفاء الحكومة من مسؤوليتها المباشرة في ارتفاع الأسعار، وتحميلها مسؤولية فشلها و عجزها عن وضع الآليات والأجهزة الرقابية اللازمة لتعديل ممنهج و متواصل لها، ولمقاومة التهريب وضرب الاحتكارات والمضاربين، إانه وجب العمل على خلق عقلية مواطنية مقاومة لمنطق الاستهلاك المفرط ومتحررة من سطوة السوق ومنطقه، وذلك من خلال توعية المواطن بدوره في فرض أسعاره وضرب مقومات السوق التي تلتهمه و مقدرته الشرائية، من خلال مقاطعة واعية لكل مادة استهلاكية يتجاوز سعرها الأسعار المعقولة والمرجعية، هذه المقاطعة الواعية بإمكانها خلق وفرة في العرض و تراكم للسلع، مما يحتم عليها و من منطق السوق ذاته تهاوي الأسعار لتراجع الطلب، وهو السلاح الوحيد الذي بقي لدى الفئات الشعبية والمتوسط لمجابهة هذا الغول المتواصل والمتربص بجيوبها.
وأمام عجز الإطراف الرسمية حكومية و غير حكومية في الحد من ارتفاع الأسعار، لم يبقى أمامنا من خيار سوى “مقاومة مواطنية” للحد من هذه الظاهرة التي دمرت مقدراتنا المعيشية، لفرض أسعار حقيقية ومرجعية جديدة من خلال شعار مركزي ” اللي يغلا سومو .. ما يلزمناش “