هنالك مؤشّران على احتمال تصاعد الخطر الارهابي في المستقبل القريب و احتمال انفتاح جبهة فعلية قد تبدأ محدودة في الجنوب و من خلال عمليّات منعزلة هنا و هنالك ثم تتطوّر.
المؤشّر الأوّل:
العمليّة الارهابية الأخيرة و رمزيّتها بوقوعها في شارع محمّد الخامس،في قلب العاصمة،على مقربة من وزارة الداخلية ،أمام البنك المركزي وضدّ نخبة الأمن الرئاسي .
المؤشّر الثاني:
التدخّل الرّوسي في سوريا و ميل موازين القوى الى التعادل هنالك قد يسرّع في فتح الجبهة الليبية على أبعاد جديدة غير مسبوقة و قد ينعكس مباشرة على تونس و قد تكون الجزائر نفسها في المرمى انطلاقا من الأراضي التونسيّة.
هنالك طبعا عمل الأجهزة العسكرية و الأمنيّة الذي لا يعنينا هنا. و هنالك عمل السّياسيين الذين يبدو انّهم ذاهبون في اتجاه مؤتمر وطني لمقاومة الارهاب. و لكن هنالك واجب المفكّرين و المثقفين الذي يجب أن ترسم له بوصلة فكرية و لم لا خطّة وهيكل تنظيميان.
الى هؤلاء عموما ، والى المثقفين التونسيين خصوصا ، أتوجّه بما يلي :
أوّلا: وضع المسألة
1- اذا كان هنالك ارتباط ‘أنثروبولجي’ بين العنف و المقدّس عموما – حسب روني جيرار مثلا – فلماذا يلعب المقدّس الاسلامي أكثر من غيره هذا الدّور في الارتباط بالعنف والآن تحديدا ؟
2- اذا كان هنالك ارتباط بين المقدّس و العنف و الحقيقة (حسب فكرة ‘المثلّث الأنتروبولوجي ‘ عند محمّد أركون) فلماذا يرتبط ذلك بالاسلام و تصوّر بعض أبنائه عن ‘الحقيقة الدينية’ الاسلاميّة أكثر من غيره الآن تحديدا؟
3- اذا كان العنف موجودا في كلّ المجتمعات فلماذا يكثر في المجتمعات ( والأقلّيات) التي ‘ تعتملها الظّاهرة الدينية الاسلامية’ أكثر من غيرها الآن تحديدا؟
4- اذا كانت هنالك في كلّ مجتمع و بين المجتمعات أصناف من العنف تمارس هي عموما ستّة : العنف على الطبيعة و العنف الاقتصادي و العنف السياسي و العنف الاجتماعي و العنف النفسي-الثقافي و العنف الخارجي بين المجتمعات .فلماذا يتقدّم العنف الدّيني تحديدا على غيره من أشكال العنف في مجتمعاتنا الاسلاميّة و الآن تحديدا ؟
5- اذا كان العنف بكل أصنافه السّابقة يمارس بأشكال و درجات مختلفة رمزيّة و مادّية فلماذا يأخذ ذلك العنف تحديدا الشكل الارهابي الدّيني الأقصى دونا عن غيره من الأشكال و الدّرجات عندنا والآن تحديدا ؟
ثانيا : نحو فرضيّة البحث
ملاحظة : انّ أكثر كلمات تكرّرت في الأسئلة الخمس السّابقة هي الاسلام – العنف – الآن.
استنتاج أوّل : ما يجب الانتباه اليه و عدم الغرق فيه.
كل تحليل انتروبولوجي أو سوسيولوجي أو تاريخي أو كلامي (تيولوجي) أو غيره يربط ما يقع بالاسلام عموما ( و ليس بالاسلام الآن و هنا) أو بالانسان عموما ( وليس بالانسان المسلم الآن و هنا) أو بالمجتمع عموما (وليس بالمجتمعات والقلّيات الاسلامية الآن و هنا)هو تحليل صحيح عموما و لكنّه لا يقدّم شيئا محدّدا وجديدا الآن و هنا تحديدا.
فرضيّة البحث الحقيقية التي تتطلّب اجابة تصبح:
ما هو الواقع الدّاخلي الدقيق الحالي الخاصّ بالمسلمين الحاليّين ( وهو واقع مركّب اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي) والمتفاعل مع الواقع الدّولي الحالي الذي جعل من بعضهم محترفا للعنف الارهابي باسم تأويل خاصّ للدّين الاسلامي الآن تحديدا و من ثمّة ربط ذلك بالانتروبولوجيا و السوسيولوجيا و التّيولوجيا والتاريخ…بما في ذلك التاريخ السياسي العنيف و تاريخ الأفكار العنفية عموما و التاريخ العنيف و تاريخ التّنظيمات و الأفكار العنفيّة في المجتمعات الاسلاميّة تحديدا؟
ثالثا : باتّجاه الاجابة
هنالك خصوصيّة في المرحلة العولميّة العالمية- الاسلامية الحاليّة افرزت خصوصية عنف حاليّة باسم تأويل حالي للاسلام في المجتمعات الاسلامية وفي العالم حاليّا :
أ- لا بدّ اذن من بحث:
1- العولمة عموما ولكن أساسا خصوصيّة مرحلتها و أزمتها الآن تحديدا
2- خصوصية تأثير العولمة في البلدان الاسلامية عموما و الآن تحديدا
3- التداعيات الاقتصادية الخاصّة الحالية للعولمة على البلدان الاسلاميّة
4- التداعيات الاجتماعية الخاصة الحالية للعولمة على البلدان الاسلامية
5- التّداعيات السياسية الخاصة الحالية للعولمة على البلدان الاسلامية
6- التداعيات النفسية-الثقافية الخاصة الحالية على البلدان الاسلامية
7- خصوصية البلدان الاسلامية التي جعلت تلك التأثيرات لها صفة خصوصية فيها
ب- بعض العلامات الخاصّة في الطّريق:
1- خصوصية اللعبة الجيو- ستراتيجية العولميّة الدولية عندنا حاليّا
2- مأزق القضيّة الفلسطينية المتواصل وخصوصية مرحلته الحاليّة
3- تأثيرات حرب افغانستان و تدمير العراق و نتائج ذلك حاليّا
4- انهيار البدائل الكبرى القديمة عالميا و تأثيرها الخاص عندنا على محتوى وشكل النضال الحالي ضدّ العولمة
5- ضعف الحياة السياسية التقليديّة عموما و خصوصيّتها عندنا من حيث الانفلات الحالي نحو الارهاب مقابل تراجع الحياة السياسة
6- ضعف ، بل انعدام ، الحركات الحديثة المضادّة للعولمة عندنا و علاقة ذلك المحتملة بالحركات الارهابية
7- خصوصيّة اهتراء الدولة و المجتمع عندنا مع انسداد أفق تامّ في التغيير السياسي وانعكاسه
8- تعطيل ‘الربيع العربي’ الوطني – القومي و المواطني الديمقراطي باتجاه تخريبي وارهابي
9- وجود دول راعية لهذا النوع الخاص من العنف عندنا و علاقتها بغيرها من الدول عندنا و ببقية دول العالم الكبرى
10- خصوصيّة تعطّل الاصلاح الدّيني عندنا و تأثيره الحالي.
ج- ثمانية ضرورات لا بدّ منها :
1- لا بدّ من تظافر مجهود كلّ الاختصاصات في العلوم الاجماعية و الانسانية في تشخيص و تحليل الوضعية واقتراح الحلول
2- لا بدّ من دور خاص للمختصين في العلوم الدينية التقليدية و الحديثة في الأمر بسبب خصوصية الدور الديني في الأزمة
3- لا بدّ من جرأة سياسية حقيقية في التعاطي مع الدول الأجنبية المسيرة لعالم العولمة
4- لا بدّ من جرأة سياسية حقيقية في التعاطي مع بعض الدول الاسلامية من مناولي العولمة في الداخل
5- لا بدّ من جرأة سياسية حقيقية في التعاطي مع الحركات السياسية الليبيرالية التي تستفيد من الظاهرة سعيا لمبادلة الحياة والأمن بالحرية
6- لا بدّ من جرأة سياسية حقيقية في التعاطي مع حركات الاسلام السياسي غير الحازمة مع الظاهرة والتي تستثمرها بطريقتها الخاصّة
7-لا بدّ من جرأة سياسية حقيقية في نقد الحركات القومية و اليسارية التي لا تزال ترفع شعار ‘العنف الثوري’ في الداخل بدل الانتقال الديمقراطي السلمي
8-لا بد من تعاون حقيقي مع الخبراء الأمنيين و العسكريين الوطنيّن بحثيّا – علميّا لما للمسألة من بعد أمني – مخابراتي- عسكري.
عوضا عن الخاتمة : الارهاب و الموت و الحرّية
ان الحياة هي اثمن ما عند الانسان و المجتمع و لذلك يعتبر الحقّ في الحياة هو أهمّ الحقوق الانسانية على الاطلاق.
الحياة الاجتماعية الحديثة لا تقوم دون دولة حديثة من بين مهامها الأساسية ضمان الحق في الحياة للأفراد و الجماعات في اطار مهامّها السّياسيّة العامّة.
انتشار سياسة الموت و الارهاب التي تهدّد الفرد و المجتمع في حياتهما الفردية و الجماعية لا بدّ من مواجهته بسياسة الحياة و الا فلا معنى للسياسة وقتها.
تموت السياسة اذا كان الموت هو الخطر المحدق الأساسي على حياة الفرد و المجتمع بينما هي تهتمّ بأشكال و درجات و تفاصيل تلك الحياة المهدّدة أصلا في بقائها.
عندما يكون الموت هو العدوّ الأساسي يجب أن تتحوّل ‘ايديولوجيا الحياة ‘ الى ايديولوجيا سائدة و ينهزم أمامها كل شكل آخر من الايديولوجيا ت السياسية التي تهتمّ بادارة الحياة نفسها في المدينة – الدولة، ناهيك عن اليوطوبيا .
هكذا يوظّف الموت في قتل السياسة من خلال سياسة القتل.
السّؤال الخطير هنا هو:
هل الموت المحدق ضدّ السلطة في الدّولة أم هو من صنعها؟
اذا كان ضدّها فلا بدّ من سياسة الحياة المضادّة التي قد تقتضي غضّ البصر عن السلطة في الدولة حتى يهزم الموت ولو بقيت حاكمة ’ستّين سنة ’و هي ظالمة وجائرة . ثم تستأنف الحياة السياسية. في هذه الحالة يجب دفع الجميع الى حكومة وحدة وطنية تتفق على قواسم مشتركة دنيا لتوحيد الجبهة الداخلية و تحييد التأثيرات الأجنبية.
اذا كان من صنعها فلا بدّ من سياسة الحياة المضادّة للسلطة نفسها بحيث .يجب قتل السلطة نفسها ’اللّيلة‘ قبل الغد حتى تحيا الدولة و الشعب مع سلطة جديدة.
و المشكل الأكبر في الاجابة هو شرك نظريّة المؤامرة.
هل لعبة الموت هي مؤامرة من السلطة أم على السلطة و الدولة و المجتمع معا؟
عندما تتعذّر الاجابة لا بدّ من نظريّة المقامرة… و الحياة و السياسة هما بمعنى ما مقامرة.
على أيّ الرّهانين نراهن وكيف المقارنة بين احتمالات خسائر هذا الرّهان أو ذلك؟
ماذا لو اعتقدنا انها مؤامرة من السلطة و تبين لاحقا انها على السلطة و الدولة و الشعب معا؟
و ماذا لو اعتقدنا انها مؤامرة على السلطة و الدولة و الشعب معا و تبين لاحقا انّها مؤامرة من السلطة؟
أيّ الرهانين يؤدّي الى أخفّ الأضرار في حالة اكتشاف الخطأ لاحقا؟
أيّ الرهانين يحفظ أكثر ما يمكن من الحيوات الفرديّة و الجماعيّة؟
أي الرّهانين يسمح بتدارك الأمر و استئناف السياسة داخل الدّولة لاحقا؟
—
لا معنى لا لممارسة البحث العلمي و لا لممارسة السّياسة اليوم دون هذا.ان التحاليل الفكريّة والعلمية لوحدها سوف تصبح مثل دردشات الصالونات المريحة أثناء الحرب. وان الممارسة السياسية سوف تتواصل عمياء اذا لم تهتدي بالفكر و المعرفة.
ان كان هنالك احساس بالمسؤولية الوطنيّة من السلطة و الأحزاب السياسية ، و اذا تمّ الاتفاق حول خطورة التهديد للدولة و الشعب فعليّا ، فيمكن حتّى أن يصبح من المشروع للمثقفين محاولة دفع كلّ من السلطة و الأحزاب الى تكوين وحدة دراسات مستعجلة ( تموّلها الدّولة ) و لكن ذات رئاسة مستقلّة متكّونة من لجنة متفرّغة من خيرة مثقفي البلاد المعروفين بمصداقيتهم مثل الدكاترة هشام جعيط و عبد المجيد الشرفي و يوسف الصدّيق و منصف وناس و فوزية الشرفي و آمال قرامي و آمنة الرّميلي ودرّة محفوظ و غيرهم ، حتّى لا تتجاذبها لا الأحزاب و لا السلطة ، تكون متعدّدة الاختصاصات و مختلفة التوجّهات ولكن تعمل بروح وطنية و أكاديمية تراقب الأوضاع و تحلّلها باستمرار و تطلع الحكومة وقادة كبرى الأحزاب و الجبهات السياسية و المنظّمات الوطنيّة الكبرى على أعمالها و تنشر ما يمكن نشره للرأي العام من خلال موقع الكتروني خاصّ مثلا ، بالتوازي المجهودات الفرديّة لمثقفي و مبدعي تونس التي لم تتوقّف يوما و مع العمل الذي تقوم به الأحزاب و الجبهات و المنظّمات من ناحية و المصالح الأمنيّة و العسكريّة من ناحية ثانية ، وذلك لحماية الوطن… قبل فوات الأوان.