قامت الحكومة يوم 03 نوفمبر الجاري بنشر الأمر عدد 1619 المؤرّخ في 30 أكتوبر 2015 المنظّم للدّروس الخصوصيّة ودروس الدّعم في جوانبها المختلفة أي التي تهمّ التّلميذ والمربّي والمؤسّسة التّربويّة.
ولئن اعتبر البعض أنّ هذا “التّقنين” إيجابي في حدّ ذاته، فإنّ البعض الآخر رأى في الأمر تلاعبا والتفافا ومحاولة مفضوحة لتمرير مغالطة تتمثّل في السّماح بالدّروس الخصوصيّة من جهة، ومن جهة العمل على “تخفيف” وطأتها الماديّة ووضعها تحت المراقبة.
قانون لا جديد فيه
المغالطة في كلّ هذا هو أنّ القانون يسمح سابقا بتنظيم هذه الدروس في المؤسّسات التربوية بمقابل يتقاسمه المربّي والمؤسّسة بإشراف منظمة التربية والأسرة. وهي طريقة لتمويل ذاتها. وبعد الثورة ظلّت هذه الدّروس تُنظّم داخل المؤسّسات بذات المعاليم التي أُعلن عنها مؤخّرا، وهذا يعني في الحقيقة أنّ الوزارة ومن خلالها الحكومة لم تأت بجديد. وحتّى الإجراءات التّأديبيّة والعقوبات في حقّ من يقوم بالدّروس الخصوصيّة في غير الفضاءات التربوية فإنّها موجودة سابقا في مناشير الوزارة. إذا من هذه الزّاوية فإنه لا جديد سوى جمع ما كان سابقا في مناشير ليصبح اليوم في قانون. صحيح أنّ سلطة القانون أقوى، لكنّ المشكل يبقى في النهاية إرادة صاحب السّلطة، ومع ذلك فإنّ المسألة أعمق من هذا بكثير.
الدّروس الخصوصيّة ظاهرة تنخر المنظومة التربوية
إنّ الدّروس الخصوصيّة هي ظاهرة تنخر جسم المنظومة التربوية وهي دليل على فشلها وخرابها. فالأصل في الأشياء هو أن تؤمِّن المؤسّسة التربويّة في كامل مستوياتها رسالتها الأصليّة على أساس العدل. وإذا التجأ منتسبوها إلى طرق خاصّة للنّهل من العلم والمعرفة، فهذا دليل اختلال في تأمين الرّسالة. وواقعيّا لقد تحوّل الأمر إلى ظاهرة مرعبة ومنهكة للتّلميذ وأسرته وخاصّة للفقراء منهم في العقود الأخيرة حين تحوّل التعليم إلى مجرّد سلعة، وارتبطت البرامج برهانات كمية تهمّ الحكّام، بما أنهك التلميذ وكرّس عجزه عن استيعاب ما يبرمَج. وتحوّلت المدرسة فعليّا إلى فضاء عاجز عن تأمين إكمال البرامج في ظلّ بنية أساسية متخلّفة، وتكدّس للمواد وطول للبرامج وارتباط التوجيه في كلّ المستويات بالنتائج الكمية. ممّا فرض على الجميع الانخراط في تعليم موازٍ ارتبط تدريجيّا بالقدرة على الدّفع. وبرزت من رحمه بارونات مثل بارونات التجارة الموازية، ما خلق نوعا من الاستقطاب الاجتماعي داخل المربّين جرّاء إعطاء الدروس الخاصة من عدمه. وحتى نكون منصفين فالمسؤولية ليست دائما مسؤولية المربّي “عديم الضمير” الذي يجبر تلاميذه على تلقّي الدروس الخاصّة، ففي حالات عديدة يمارس الأولياء والتلاميذ ضغوطا شتّى على المربّين كي يستجيبوا إلى دعواتهم.
على أنّ الضغط الأكبر يأتي من المنظومة التربوية التي تشكّل الإطار الموضوعي الدّافع لبروز هذه الظواهر المزرية ونموّها. فوزارة الإشراف عوض الذّهاب مباشرة إلى أصل الدّاء ذهبت إلى المعالجات الجانبيّة ذات الطابع “الأمني” ولا نعرف إلى الآن ماهي الآليّات التي ستعتمدها “للكشف” عن المربّين الذين ينظّمون الدّروس الخصوصيّة. هل ستبعث شرطة تربوية تتتبّع “الخارجين عن القانون”؟ وكيف ستتعاطى مع إصرار الأولياء والتّلاميذ على هذه الدروس؟ وما هي الآلية التي ستعتمدها لإقامة الدليل “الجنائي” القطعي على “الجريمة”؟ فتنظيم دروس في فضاء خاص قد يكون من باب التطوّع إذا يعسر إقامة الحجّة على تلقّي الأموال.
معالجة قاصرة
إنّ المعالجة التي ذهبت إليها الوزارة تبقى قاصرة، لأنّ الأمر يتعلّق بالمنظومة التربوية التي تعرّضت إلى التّخريب، ولن يتمّ القضاء على ظاهرة الدّروس الخصوصيّة بإصدار قانون يعترف بها وينظّمها عوض منعها. فوزير التربية، الذي ما فتئ يتحدّث عن فشل المنظومة، لا يتّخذ ما يلزم من إجراءات لإصلاح الأوضاع. بل إنّ إصدار مثل هذا القانون ليس سوى ذرّ الرماد على العيون، لعدم قابليّته للتّنفيذ بحكم الخلل الحاصل في المنظومة التعليمية، وبحكم “الحاجة” إلى الدّروس الخصوصيّة خاصة بالنّسبة إلى السّنوات النهائية التي تعجز السّاعات الرّسمية عن تأمينها كما ينبغي، وبحكم سيطرة البارونات على المفاصل التربوية التي تتمعّش منها وتجعلها بعيدة عن التتبّع والمساءلة، ولا أدلّ على ذلك من تواصل الظاهرة بنفس الوتيرة وبنفس المسالك.
إنّ القضاء على هذه الظاهرة وغيرها يرتبط بالإرادة والقرار السياسي للوزارة والحكومة على فتح ملف التعليم برمّته منظومة ومناهج وبنية أساسية وتمويلا. لكن حكومة الارتعاش والموازنات اليمينية الرجعية عاجزة عن الشروع فيه رغم وعود وزير التربية. فرهانات حزبه ومعادلات حكومته أربكت برنامجه وعطّلته رغم إنجاز الاستشارة الوطنية حول إصلاح التعليم. ورغم الوعي المتنامي بضرورة وضع حدّ لخوصصة التعليم واحتكامه إلى منطق العدل والإنصاف، إلاّ أنّ الحكومة الليبرالية لها رأي آخر.
علي الجلّولي: عضو لجنة مركزية لحزب العمال ونقابي بالتعليم الثانوي
“صوت الشّعب”: العدد 187