تقديم: الكلام على الكلام صعب، والحديث حول المتداول والمستهلك والمعاد والمكرر الممل أصعب بكثير.
في البدء،
مجمل الثورات كانت مسبوقة بحركات فكرية ومخاض اجتماعي كبير، تختمر من خلاله شعلة التمرّد. كما رافق هذه الثورات في مسارها العديد من المظاهر، منها الإيجابي كحرية التعبير والحوارات المفتوحة على كل المواضيع، الارتقاء بوعي المواطن بشكل سريع، وتحوّل مركز اهتمامه إلى الشأن العام والحل الجماعي بعدما كان سنوات ما قبل الثورة منغمس في الفردانية والبحث عن المسالك غير المشروعة المؤدية للنجاح، وهي ثقافة تأسست بمقولات مثل تدبير الراس والانتهازية وأنا وبعدي الطوفان الخ…
ومن توابع الثورات وتحديدا العربية منها ظهور الفتاوي وازدهار مؤسسة الفتوى التي تجاوزت فضاءها الدّيني لتعمّ كل المجالات، فالذّي كان بالأمس مفتي وجهبذ في علم كرة القدم تحوّل بقدرة قادر إلى محلل سياسي، ويفقه في القانون والتشريع ويجادل في ملائمة القوانين والدّستور لمقاصد الشريعة، كما اختلط الحابل بالنابل في بلورة النمط الحضاري للمجتمع التونسي، فالذّي كان بالأمس “بيّاع” خمور تحوّل ببركة الدعاة إلى شيخ يحلل ويحرّم في مسائل، لم يستطع مجمع الفتوى بالأزهر ولا مشايخ الزيتونة في تونس الحسم فيها، وذلك بأشكال ومؤيدات لا علاقة لها بالموضوع أحيانا وبأساليب ما انزل الله بها من سلطان.
في الأصل،
ليس ثمّة في الحقيقة أصل لما يحدث، كأنما كلّ ما يحدث فروع لجذوع بعيدة وغير مرئية. تداخل في المهام والاهتمامات، ولعب دور “حوكي وحرايري” في مجمل المجالات. فالنائب الذّي أسعفه الحظ بأن يكون في مجلس النّواب، وهو لم يهتمّ يوما بالشأن الثقافي ولم يدخل قاعة سينما ولم يقتطع تذكرة لمشاهدة مسرحية، أصبح يفتي في المشروع الثقافي والخيارات الثقافية في البلاد، وكذلك سماسرة الأمس رفعوا اليوم راية النضال الثقافي أضف أنّه لا أحد يدافع عن موقعه أو مشروعه بالوضوح الكافي والشفافية والصّدق الكافي، فمعظم المتشنّجين في الدّفاع عن مشروع ثقافي وأعلنوا حربا شعواء ضدّ وزيرة الثقافة أو مستشريها لم يقدّموا أي تصوّر بديل، بل الأدهى أنّهم يمارسون في جمعياتهم ما يبرّحون بمعالجته في الوزارة. هناك العديد من النقائص في وزارة الثقافة وهي نقائص من صلب المرحلة وطبيعة التحوّلات الاجتماعية والمنظومة الثقافية السائدة والتي ستسود. لكن رغم هذه النقائص من باب التزّيُد في الشيء عندما تُشَنُ حملة على تظاهرة “مبدعون من أجل الحياة” وهي التي ذهبت بالسينما والمسرح إلى أطفال وجهات لم تطأ قدم أشباه المثقفين أرضها طيلة السنين.
في الفرع
ينسحب الأمر على مُسَيِّري البلاد ومثقفيها ونوّابها ومحلليها السياسيين وصحافييها الراكبين على موجة الصحافة ألاستقصائية أحيانا وشعرائها ومسرحييها – دون أن ننسى قانون النسبية – حتى لا يتهموننا بالتعميم. لم أرى شاعرا يجلس في أمسية للشعر دون أن يقرأ شعرا ولا ينزل نقدا وقدحا في من قرؤوا، كما المسرحي الذي لا يصير المهرجان مهما إلاّ كان هو من يشارك في تأثيث فقراته بأعماله أو بالمشاركة بندوة من ندواته او عضوا بلجنة تحكيمه. لم نتعلّم بعد ثقافة الاستماع والمتابعة والاستيعاب والفهم، والنّقد البناء وتقديم البدائل والمقترحات. فأغلب النقد في الثقافة وللمثقّفين هو محاولة مبطّنة لعرقلة مثقّف آخر. لنعمل على أن نساهم بدفع آلية البناء الثقافي دون ان تأخذنا نعرة المبدع الفرد الواحد الأحد، ولتختلف اذواقنا ورؤانا وتصوّراتنا من اجل المشروع الحضاري والإنساني الذي ينشده الشعب التونسي وسعى إليه عبر ثورته المغدورة.
في الختام
ماذا لو اهتمّ كلّ بمجاله واختصاصه. كأن يصوغ لنا أبناء مجلس النوّاب الموقّرين، أبناء الأغلبية الساحقة برأسيها، قوانين تضمن الشفافية والعدالة والحفاظ على المال العام وتضمن لنا بالأساس الحرية التي هي أساس العمران شقيقة العدل. وتنحوا عن المزايدات حول المسألة الثقافية التي لا علاقة لهم بها أصلا وفرعا. وفصلوا منهجيا بين ما يعنيهم سياسيا وقانونيا وبين المشروع الثقافي الذّي يحمله المثقفون على عاتقهم كما حمل سيزيف صخرته.
بقلم: وهيبة العيدي