جورج جاك دونتن
نعم “قد تأكل الثّورة أبناءها”، ونخشى أن تُنهي الثّورة التّونسيّة أكل أبنائها وقد بدأت في ذلك من قبلُ باغتيال رمزيْن علميْن من رموزها هما: شكري بلعيد والحاج محمّد البراهمي. وتواصل الأكل وبتنا متشائمين إذ لم يتحقّق شيء من المطالب الكبرى التي دفعت النّاس إلى الخروج للشّارع. فلا شغل ولا حريّة ولا كرامة.
لا شغل،
لأنّ أعداد العاطلين عن العمل تزداد كلّ سنة. ولا شغل لأنّ كثيرا من التّونسيّين لم يعودوا يقدّرون قيمة العمل باعتباره الحلّ الوحيد لإنتاج الثّروة ومراكمتها، ولا شغل لأنّ الحكومات المتعاقبة لم يكن لديها حلّ واضح وفعليّ وعمليّ لتشغيل كثير من العاطلين. ويكفي أن نذكر حلاّ واحدا، وهو توزيع ما يُعرف بالأراضي الدّولية على بعض العاطلين ومساعدتهم ومراقبتهم، نعم مراقبتهم، للحفاظ على أموال المجموعة الوطنيّة. لا شغل لأنّ الإثراء الفاحش أصبح متحقّقا بأيسر الطّرق: بالتّعويضات، أو الاستيلاء على ما تركت عائلة بن علي أو الطرابلسيّة، أو بالاقتصاد الموازي الذي أربك وأبرك اقتصاد الدّولة والشّعب المغلوب على ثورته، أو بتسفير الأعضاء (أعني البشر الذين يقبلون على تفجير أنفسهم مقابل أوهام أو مال، لأنّ من يقبل ذلك ويفعله ليس إنسانا، وإنّما هو مجموعة أعضاء اجتمعت ثمّ تفرّقت بحزام ناسف أو قنبلة) لا شغل لأنّه من اليسير أن تصبح نائبا تتقاضى أو تتمتّع بما يزيد عن الألفي دينار فضلا عن القيمة الرّمزيّة (السيّد النّائب المحترم) يمكنك ذلك وأنت تتحدّث عن الدّوارة البوزيديّة، أو تترحّم على حيّ يُرزق…
لا شغل إذا…
لا حريّة،
إذ لا معنى للحريّة إذا كان الحرّ يُصبح ويمسي فارغ الجيب أو يمدّ يدا لقريب أو صديق ثمن قهوة أو علبة سجائر. ولا حريّة لمن يُهدّده الإرهاب في كلّ لحظة، لا حريّة لمن يذبحه الإرهابيّون ويقطعون رأسه ويكلّفون ابن عمّه بحمل رأسه إلى أمّه، لا حريّة لمن يحكمه حاكم يرهن البلاد لدى البنوك العالميّة إلى أجل غير معلوم، لا حريّة لمن يحكمه من كفّر النّاس أو يكفّرهم، لا حريّة لمن يحكمه من يرتجل القرارات ويهدر المال العام، لا حريّة لمن أصبح ينام ويستيقظ على دماء تسيل أو خصومات على الكراسي والأمانة العامّة، لا على برامج تنمية أو تصوّر سياسيّ مُستحدث أو دفاع عن قضيّة عادلة في العالم، لا حريّة لمن يُفرض عليه أن يُبايع بالقوّة أو يُبايع من تلقاء نفسه مصّاصي الدّماء، لا حريّة لمن لا ينعم بثقافة عقلانيّة مستنيرة تدافع عن حقّ الإنسان في الحياة والإبداع، وعن حريّة التّعبير والتّفكير والمعتقد. لا حريّة لمن يعيش مسيّجا بفتاوى المنع والتّحريم وتوزيع العفو والتّوبة والغفران، لا حريّة لمن يعيش في قلق دائم على مستقبله ومستقبل أبنائه، لا حريّة لمن تفرض عليه ظروف الحياة أن ينقطع عن التّعليم مرغما ليصبح “راعيا-مذبوحا” أو “حارقا-محروقا” أو مهرّبا-مُخرّبا”، لا حريّة لمن لم تقطع دولته صلاتها بالكيان الصّهيوني الذي استباح دم التّونسيّين من قبل، وهو الآن يقف وراء كلّ تخريب للدّول العربيّة.
لا حريّة إذا…
لا كرامة
لمن سال عرقه أو دمه من أجل الوطن، وهو الآن لا يجد مسكنا لائقا أو طعاما كافيا على حين يقيم المهرّبون والمتهرّبون في قصور باذخة ويتنقّلون في سيّارات فارهة، لا كرامة لمن يقف على أبواب الحكّام فيقال له “الدّولة ليست شمسا لتشرق على الجميع!” نعم الدّولة ليست شمسا لتُشرق على الجميع،، لكنّها تُشرق على الجميع في الضّرائب، وجميعها ها هنا الموظّفون فقط!!!، أمّا المتهرّبون من دفع الضّرائب فالشّمش تتحوّل إزاءهم إلى ظلّ.
ولا كرامة لعجائز أو شيوخ صبروا صبر أيّوب على بورقيبة وبن علي وسمعوا بالثّورة ولم يجنوا من أبجديّاتها شيئا، وأبجديّات الثّورة ليست الخطب الرنّانة أو الشّعارات أو الوعود الانتخابيّة الكاذبة، وأبجديّات الثّورة ليست تكفير التّفكير أو قطع الرؤوس، وليست الإضراب عن الصّلاة بسبب إمام عُزل، ولا كرامة لمواطن يقطع البحر حالما بالثّروة في بلاد غير بلاد الثّورة فيتحوّل إلى ” زطّال” يُقتل في حادث غامض أو يُسجن ويُبعث إلى وطنه مطرودا مسلسلا، لا كرامة لمن يُحتاج إليه يوم الانتخاب فقط، أو ليكون صوتا لرفع شعار فقط، أو لمن يُنسى بعد وصول أحدهم إلى نائب أو رئيس أو أمين عام. لا كرامة لمن يطلب جراية فلا يجدها على حين أنّ غيرَه لهف المليارات دون حرج.
لا كرامة إذا…
لا شغل لا حريّة لا كرامة؟؟؟ أيّ معنى للثّورة إذًا؟
سيظلّ الهوى/ الحبّ يجمع بيننا وبين تونس، بين شهداء الوطن الذين ردّد الشابي أصواتهم وهو يرثيهم أو الذين استبقهم بصوته قبل أن يولدوا.
كلّما قــــامَ في البلادِ خـطيبٌ،،،،، مُــــــوقِظٌ شَعْبَهُ يُــــرِيدُ صَـــلاَحَـــــهْ
ألبسُوا روحَهُ قميصَ اضطهادٍ،،،،، فاتـــــكٍ شـــــائكٍ يـــــــردُّ جِــــمــــاحَهْ
أَنَا يَا تُوْنُسَ الجَمِيلَة َ فِي لُجِّ،،،،، الــــهَوى قَدْ سَبَحْتُ أَيَّ سِبَاحَــــهْ
شِرْعَـــــــــــــتي حُبُّكِ الـــــــــــــــــــــــعَمِيقُ،،،،،وإنِّي قـــــــَدْ تَذَوَّقْتُ مُـــــــرَّهُ وَقَرَاحَهْ
لستُ أنصاعُ للوَّاحي ولو مــ،،،،، ـتُّ وقامتْ على شبابي المناحَة ْ
لا أبالي, وإنْ أُريقتْ دِمائي،،،،، فَـــــدِمَاءُ الــــعُشَّاق دَوْمـــاً مُبَاحـــــــهْ
فلو قُدّر للشّهداء الحقيقيّين أن يتكلّموا الآن لكان ما قاله الشّابي هو جوابهم على من باع واشترى. ومن ينوي البيع بالمزاد العلنيّ.
ما الذي طلبته زعرة غربالي أمّ الشّهيد الرّاعي مبروك السلطاني غير جراية؟ ما الذي طلبته عائلات آخر الشّهداء في شارع محمّد الخامس؟
سيظلّ التونسيّون متمسّكين بثورتهم، رغم الدّاء والأعداء
لكن ما يُخشى دائما هو أن ينفدَ صبر الصّابرين، صبر من أصابهم هوى تونس وحبّها فلم يجدوا إلاّ الهواء.
انتظر التّونسيّون خطاب السيّد رئيس الجمهوريّة، فماذا وجدوا؟؟؟؟
الهواء، حديث عام عن الإرهاب، ومقولات: اليد في اليد، وتونس للجميع، وحبّ تونس في قلوبنا-جيوبنا، وحديث أطول منه قليلا عن السّلم الاجتماعيّة، يعني إلغاء الإضرابات والمطالبة بالحقوق التي يقرّها الدّستور، وحتى المواثيق الدّوليّة، ثمّ حديث أطول من السّابقين عن نداء تونس المرموز له بالنّخلة – والنّخلة أيّدكم اللّه من بقيّة طين جُبل منه آدم أبو البشر أجمعين/ والحاكم كما تعرفون “بابا النّاس الكلّ”- إذن حديث طويل عريض عن المكتب التّنفيذي واللّجنة التّأسيسيّة، وهلمّ…
انتظرنا الخطاب خاصّة بعد ظهور الشّريط الأحمر أسفل الشّاشة: قرارات هامّة وجريئة.
انتظرنا الإعلان عن اقتراح خطّة وطنيّة رئاسيّة لمقاومة الإرهاب؟ انتظرنا اقتراح مداخل لمعالجة الأزمة الاقتصاديّة من قبل رئيس الدّولة؟ انتظرنا إعلان مبادرة ثقافيّة – لأنّ القوانين غير كافية ما لم يُسندها وعي وثقافة العيش المشترك – تتكفّل بها الرّئاسة ويسهر عليها المستشارون، للحدّ من تأثير الظّواهر السّلبيّة بعد الثّورة: كالعزوف عن العمل، تلويث البيئة، واجتياح الفضاءات العموميّة المشتركة بالبناءات الفوضويّة والانتصاب العشوائيّ…
وانتظرنا…
كثير ذاك الذي انتظرناه لكنّنا لم نجن إلاّ الهواء. وأكثر ما يُخشى الآن، ونحن على أبواب ونوافذ الاحتفال بالذّكرى الخامسة للثّورة، هو أن يتواصل جني الهواء فيضعف الهوى…
وإذا ضعف الهوى…
(صوت الشعب/ العدد 189)
عمر حفيّظ: ناقد أدبي وناشط مدني وحقوقي)