لقد أكّد نائب الجبهة الشعبية، أيمن العلوي، في مداخلته، قبل أن تقرّر كتلة الجبهة الانسحاب من الجلسة العامة ومقاطعة النقاش احتجاجا على المهزلة الحاصلة، أنّ بن علي الدكتاتور لم يكن يجرؤ، شكليا على الأقل، على ارتكاب ما أصبحت تجرؤ على ارتكابه أغلبية “النداء ـ النهضة” اليوم من خرق للقوانين ودوس لسيادة البلاد. فللمرة الثانية على التوالي لا تتحرّج هذه الأغلبية في تبرير الإسراع بإصدار القانون بأنّ ذلك يأتي استجابة إلى شروط صندوق النقد الدولي. جاء ذلك مكتوبا في المشروع الأول لقانون البنك المركزي. وصرّح به شفاهيا هذه المرة في علاقة بالقانون الجديد الخاص بالبنوك. وبما أنّ “صندوق النقد الدولي يريد”، فإنّ أغلبية “الشيخين” لا تتردّد في دوس أبسط الإجراءات القانونية التي تنظّم العمل بمجلس النواب. كما أنها لا تتردّد في دوس مصالح البلاد وتضمين قانون البنوك ما أملاه الصندوق في ما يتعلق بالصيرفة الإسلامية وبتفليس البنوك، بعد أن كانت ضمّنت قانون البنك المركزي ما طلب منها تضمينه حتى يصبح هذا البنك تحت مراقبته، لا تحت مراقبة الدولة التونسية.
إنّ ما يجري اليوم تحت أعيننا، وهو جزء من سياسة كاملة، يبيّن أنّ الأغلبية الحاكمة تخون الأمانة التي أوكلها إليها غالبية الناخبات والناخبين الذين صوّتوا لها. فهي من ناحية تضرب في الصميم إمكانية وضع أسس دولة قانون كشرط من شروط الدولة الديمقراطية، إذ أنها تتصرّف بمنطق “الأغلبية تفعل ما تريد”، دون احترام للدستور وللقانون وللتراتيب. وهي من ناحية أخرى تضرب في الصميم مقوّمات السيادة الوطنية وتحوّل البرلمان إلى مجرّد أداة في خدمة المؤسّسات المالية الدولية النهّابة والاستعمارية، دون اعتبار لما يقتضيه النهوض بأوضاع البلاد والشعب اليوم من قطع مع سياسة التبعية وانتهاج خيارات وطنية جديدة تهدف إلى توفير مقوّمات الحياة الكريمة لأوسع فئات الشعب التي ضحّت بالغالي والنفيس من أجل إسقاط الدكتاتورية.
إنّ الأغلبية الحاكمة وهي تتصرف بهذا الشكل تعمّق الأزمة الشاملة التي تنخر البلاد والتي هي في المقام الأوّل أزمة حكم، أزمة أغلبية عاجزة عن إنقاذ البلاد من الانهيار لأنها أغلبية في خدمة الأقليات الثرية والمافيات التي تتحكّم أكثر فأكثر في مفاصل الاقتصاد ومؤسسات الدولة من جهة، والمؤسسات والشركات والدول الأجنبية من جهة ثانية.
وكما أكّدت ذلك الندوة الوطنية الثالثة للجبهة الشعبية فإنّ القوى الديمقراطية والتقدمية، السياسية والمدنية والاجتماعية، لا يمكنها أن تبقى تتفرج على البلاد وهي تنهار، بل إنّ الواجب يفرض عليها أن تتصدّى لهذا التيّار وأن تدافع عن مصالح الوطن والشعب وتصحّح مسار الثورة التي قامت من أجل أهداف أخرى، غير التي يعمل على تحقيقها الائتلاف اليميني الليبرالي الحاكم. ولا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية إلاّ برصّ الصفوف حول برنامج إنقاذ حقيقي، وتعبئة غالبية الشّعب والمجتمع حوله. ولا نخال الجبهة الشعبية إلاّ قادرة على تحمّل أعباء هذه المهمّة.