تنظر محكمة الجنايات بتونس العاصمة يوم الجمعة 17 جوان من جديد في قضية اغتيال الشهيد شكري بلعيد، الأمين العام لحزب الوطد الموحد والقيادي البارز بالجبهة الشعبية. وبهذه المناسبة قرّرت الجبهة، دعوة كافة نصيراتها وأنصارها وكافة الديمقراطيات والديمقراطيين إلى تنظيم تجمّعات، في العاصمة بقصر العدالة، وفي داخل البلاد أمام مقر الولايات، للاحتجاج على المسعى المحموم للائتلاف الحاكم لطيّ صفحة الاغتيالات السياسية دون كشف كامل الحقيقة وخاصة في ما يتعلق بمدبّري هذه الاغتيالات والمخطّطين لها والمتستّرين على مرتكبيها.
ومن المعلوم أنّ محاولات الالتفاف على قضيتي الشهيدين شكري بالعيد والحاج محمد البراهمي، كانت بدأت من ساعة اغتيالهما، عندما كانت الترويكا بقيادة حركة النهضة، تحكم البلاد. لقد كانت النية واضحة في التستر على كلّ ما من شأنه أن يكشف أي ارتباط، بهذا الشكل أو ذاك، أوبهذه الدرجة أو تلك، لمنفّذي عمليتي الاغتيال الإجراميّتين ببعض دوائر السلطة أو قيادات حركة النهضة. ومن ثمة أقيمت العراقيل، في المستويين الأمني والقضائي، للحيلولة دون تعميق الأبحاث وتوسيعها لتشمل وزيري الداخلية السابقين، علي العريض ولطفي بن جدو، وبعض القيادات الأمنيّة التي كانت تعمل معهما.
وقد ذهب في اعتقاد العديد من الناس أنّ وصول حزب “نداء تونس” إلى الحكم سيساعد على تحريك ملف الاغتيالات، خصوصا بعد أن وعدت قيادات هذا الحزب، خلال الحملة الانتخابية، بجعل هذا الملف على رأس اهتماماتها في صورة نجاحها. ولكن حصل العكس. فحزب نداء تونس الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية وبكرسي رئاسة الجمهورية، تراجع عن وعوده. وكان أوّل ما قام به هو التحالف في الحكم مع حركة النهضة التي أقام حملته الانتخابية ضدّها ووعد التونسيات والتونسيين بـ”تصحيح ما كانت أفسدته” خلال فترة حكمها التي امتدّت على مدى ثلاث سنوات.
لقد واصل الائتلاف اليميني الحاكم وعلى رأسه “النداء” و”النهضة”، في تكريس نفس السلوك حيال ملف الاغتيالات السياسية أي العمل على وأد الحقيقة وحصر القضية في العناصر التي قامت بتنفيذ الجريمة وسد الباب أمام أيّ عمل أمني أو قضائي من شأنه أن يخرج بالقضيةعن هذا النطاق. وهو ما يخدم مصلحة الطرفين الرئيسيين في الحكم. فحركة النهضة تخشى أن تظهر الأبحاث تورّط بعض قياداتها، ولو بصورة غير مباشرة، في تلك الاغتيالات، وهو ما من شأنه أن يؤزّم أوضاعها في مناخ إقليمي ودولي لغير صالح “الإخوان” وحركات “الإسلام السياسي” عامة. وحزب نداء تونس الذي نخرته الانقسامات ليس من صالحه أيضا أن يعكّر صفو تحالفه مع غريم الأمس.
وقد تمّ استعمال جهاز القضاء الذي ما يزال تحت سيطرة “حركة النهضة”، لمواصلة طمس الحقيقة في ملفي شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي. وقد برز في هذا الصدد بالخصوص حاكم التحقيق بالمكتب 13، الذي يتولّى التحقيق في ملف الشهيد شكري بلعيد والذي قام بخروق كثيرة تصبّ كلّها في اتجاه واحد وهو سدّ الباب أمام تعميق الأبحاث للكشف عمّن يقف وراء الاغتيالات السياسية، وعن الخيوط التي تربطه بجماعة “أنصار الشريعة”، ولإماطة اللثام عن حقيقة ما روّج حول وجود “أمن مواز” يأتمر بأوامر قيادات من حركة النهضة وميليشيات تصول وتجول متمتّعة بالحماية من نفس تلك القيادات…
وقد وصلت اليوم المسرحية إلى آخر فصل من فصولها وهو محاولة طيّ الملف نهائيا من خلال محاكمة مهزلة تشمل عناصر التنفيذ فقط في عمليتي اغتيال شكري والحاج البراهمي في انتظار استكمال هذا الفصل بإعلان “مصالحة” أو “عفو وطني عام”، يطوي صفحة كافة الجرائم المرتكبة في عهد بن علي كما في عهد “الترويكا”، ويصفّي مسار العدالة الانتقالية ويكرس انتصار الثورة المضادة نهائيا بعنوان “توحيد كل الجهود لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمخاطر الإرهابية”. في “إطار وحدة وطنية” كاذبة، وهو ما ترفضه القوى الديمقراطية والتقدمية التي تعتبر أن كشف الحقيقة في ملف الاغتيالات السياسية هو المفتاح للانتصار على الإرهاب ولتحقيق التحول الديمقراطي.
ومن هذا المنطلق فإنّ إنجاح التحركات التي دعت إليها الجبهة الشعبية يوم 17 جوان، بمناسبة نظر المحكمة في ملف اغتيال الشهيد شكري بلعيد، يمثّل حلقة مهمة في مسلسل التصدي لمناورات الائتلاف الحاكم للالتفاف على هذا الملف وعلى ملف الشهيد الحاج البراهمي، وكل الشهداء بمن فيهم شهداء الثورة الذين تكاد قضيتهم يقبرها النسيان. وقد بيّنت التجربة أنّ “النضال يجيب”، فكلما وقفت الحركة الديمقراطية والتقدمية وقفة حازمة واستندت إلى دعم شعبي إلاّ وكانت النتيجة إيجابية. فلنجرؤ على النضال ولنوحّد صفّنا وفاء لشكري والحاج البراهمي وبلمفتي والعجلاني وكلّ شهداء الوطن.