في بداية الأسبوع القادم سوف تكون تونس مسرحا لندوة دولية حول الاستثمار. وسنرى عمّا ستتمخّض هذه الندوة؟وهل أنها ستحقّق الهدف الذي يروّج له، أم أنها ستكون نسخة جديدة لمسلسل قديم يختارون له في كل مرّة عنوانا حتى يظهروه في حلّة جديدة؟ لكن كيف سيكون الإخراج هذه المرّة؟ هل أنه سيختلف عن سابقيه أم أنّه سيكون كالمعتاد باهتا ورديئا؟ تقول القاعدة إنّ نفس الأسباب تعطي نفس النتائج وبالتالي من الصّعب جدّا إن لم نقل من المستحيل أنّ نفس الممثّلين ونفس النّص ونفس السّيناريو ونفس الإخراج يمكّنهم أن يفرزوا عملا مختلفا.
بيئة غير حاضنة وغيرمحفّزة للاستثمار
هل حدثت تطوّرات في التصوّرات والتوجّهات للحكومة حتى يتغيّر الواقع ويصبح مهيّأ للاستثمار؟ كل المؤشّرات والمعطيات تؤكّد العكس. المناخ العام لا يحفّز المستثمرين الأجانب على بعث مشاريع في تونس. فعلى المستوى الاقتصادي والمالي فإنّ الأرقام الرّسمية غير دقيقة ولا تعكس الواقع بالمرّة وبالتّالي لا يمكن لهم اعتمادها في تصاميم دراسات المشاريع المزمع إنجازها، إذ أنّه على سبيل المثال، تتوقّع الحكومة، في إطار مشروع قانون المالية 2017 المثير للجدل،ارتفاع نسبة النمو إلى 2,5%بينما لا يمكن لها أن تتجاوز0,8%أو0,5 % نتيجة التضخّم المطّرد والمتسارع حسب العديد من الخبراء الاقتصاديّين والماليّين.
إنّعدم الدقّة هذه تتجلّى أكثرعبر تتالي الميزانيات التكميليّة خلال السنوات الخمس الأخيرة والتي باتت قارة إلى جانب الميزانيات الأصلية وذلك بسبب خلل دائم في الموازنات السنوية.هذه السياسات الاقتصادية والماليّة غير المتناسقة وغير الواضحة أفقدت الثّقة في الحكومات المتعاقبة وأفضت بالضّرورة إلى أزمة اجتماعية بدأت تتعمّق أكثر فأكثر منذ ما يزيد عن الشهر،أي منذ أن أطلّ علينا مشروع قانون الميزانية الجديد الذي تسبّب في توتير العلاقة بين الاتّحاد العام التونسي للشغل والمعارضة الوطنية بقيادة الجبهة الشعبيّة من جهة،والحكومة ومنظّمة الأعراف من جهة ثانية، وذلك بسببانحيازها المفضوح إلى الطّبقات الثّرية ومزيد تفقير الطّبقات الهشّة والمتوسّطة عبر إخضاعها إلى ما دأبوا على تسميته بالإجراءات الموجعة وإجبارها على دفع ثمن سياسة التقشّف المملاة من “صندوق الخراب الدّولي” والمتمثّلة أساسا في تجميد الأجور والتخلّي عن الدعم وعدم الانتداب في الوظيفة العمومية وعدم تعويض المحالين على التّقاعد.
إنّاحتدام الأزمة أدّى إلى انسداد قنوات الحوار بين هذه الأطراف ممّا دفع المركزيّة النقابيّة إلى اللّجوء إلى الوسائل النّضالية وذلك بإقرار إضراب عام يوم 8 ديسمبر المقبل. ويأتي هذا التّصعيد والانخراط في العمل النضالي الجماهيري بعد الوقفة الاحتجاجيّة التي كانت قد نظّمتها الجبهة الشعبية منذ بضعة أسابيع.هذا علاوة على التحرّكات الأخرى التي تعتزم القيام بها بعض القطاعات المهنيّة الغاضبة على غرار المحامين. إنّعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي هذا يوازيه عدم استقرار سياسييتمثّل أساسا في تشظّي الحزب الأوّل في البلاد، الذي تحوّل إلى حزيبات أو بالأحرى إلى دكاكين تحكمها المصالح الفئوية الضيّقة، والذي يريد حلّ أزمته غير القابلة للحلّ على حساب المصلحة الوطنية.وفي حقيقة الأمروكما يعلم الجميع فإنّكلّ هذه الإشكاليّات العويصةتتغذّى من ثالوث الإرهاب الحقيقيّأي الفساد والتّهرّب الضّريبي والتّهريب، والذي يحظى بحماية لامشروطة من جميع حكومات ما بعد 14 جانفي 2011. هذا هو الإطار العام الذي تأمل حكومة الشّاهد أن يحثّ رجال الأعمال الأجانب على الاستثمار. فهل أنّاقتصادا مفلسا في واقع اجتماعي يهدّد بالانفجار في أيّ لحظة يمثّل بيئة حاضنة ومحفّزة لمستثمرين لا يبحثون إلّا عن الرّبح؟
رشوة مقابل التّفريط في قطاعات استراتيجيّة؟
إن الشّاهد وجماعته لا يدركون أنّ الاستثمار الأجنبي يبحث في نهاية الأمر عن الظّروف التي تمكّنه من تحقيق الأرباح أي “الاستقرار السّياسي والاجتماعي”، وهي ظروف لا يوفّرها له اليوم الائتلاف الحاكم.لذلك وبالنظر إلى كلّهذه المؤشّرات والمعطيات لا يوجد ما يشجّع الأجانب على الاستثمار في تونس إلّا إذا كانت الحكومة تنوي تحفيزهم بمنحهم امتيازات جمركية وجبائية وماليّة من خلال مجلّة الاستثمار ومجلّة التّحفيز على الاستثمار التي يعتبرها بعض المختصّين في الجباية، آليّات للفساد تجعل من تونس جنّة ضريبية، أو تنوي التّفريط أكثر فأكثر للشّركات الأجنبية، سيّما عبر مشروع الشّراكة بين القطاع العمومي والقطاع الخاص،في قطاعات استراتيجية مثل الكهرباء والغاز والماء والنفط، والنّقل الجوّي. في هذا الإطار يتنزّل الإعفاء من الضّريبة بالنسبة إلى الشّركات المصدّرة كلّيا، والتي يدوس معظمها على القانون التّونسي ولا يحترم تعهّداته، بعد أن وقع إخضاعها في الميزانيّة الفارطة إلى ضريبة تقدّر بـ10%. لعلّ هذا هو الصّنف من الضّمانات التي تقدّمه حكومة الشّاهد للمستثمرين الأجانبحتى تحفّزهم على القدوم إلى تونس.
إلى متى سوف تتواصل سياسة التّسول هذه؟ فبعد ما يسمّى بـ”الديبلوماسية الاقتصادية” والجولة المكّوكية في بلدان الخليج العربي، التي قام بها المهدي جمعة صحبة وفد ضخم والتي لم يجن منها شيئا، بل أثقلت كاهل الدّولة بمصاريف كبيرة،وبعد أن توجّه، في بداية هذه السنة، الباجي قائد السّبسي إلى “دافوس” لطلب مبلغ 23 مليار دولار، فيحين أنّ ترتيب تونس لدى هذه المنظّمة آنذاك كان 92، ها هو الشّاهد يسير على خطاهم بتكريسه لنفس التوجّه.
في الواقع لا يمكن لحكومات الكمبرادورولوبيات الفساد المرتبطة عضويّا بالدّوائر الماليّة الدولية انتهاج غير هذه السّياسات. فهي تعمل دوما على خلق الظروف الموضوعية للتّداين الخارجي واستجداء المستثمرين الأجانب عوض الاعتماد على مصادرالتّمويل الذاتية الضّريبية وغير الضريبيّة وتغيير نمط الإنتاج الاقتصادي حتى يتمّ دفع القوى المنتجة وتطويرهاوتتحقّق العدالة الاجتماعية وتحلّ الأزمة.
إن الشّكوك حول مدى جدوى هذه الندوة الدولية حول الاستثمار تتدعّم أكثر عندما نعلم أنّ غداة انتهائها مباشرة سوف تعقد قمّة بين تونس والاتّحاد الأوروبي حول التّسريع من توسيع اتّفاقية التّبادل الحرّ والمعمّق(“الأليكا”)، موضوع الزيارة التي قامت بها في الأيّام الأخيرة “فيدريكاموقريني” الممثّلة السّامية للاتّحاد الأوروبي الذي تعهّد بدفع دعم مالي إلى تونس حتّى سنة 2020 بقيمة 300 مليون يورو،وهو مبلغ يمنح على سبيلسُلفة بين أفراد وليس بين دول. أفلا يُعدّ هذا المبلغ الزّهيد جدّا،وكذلك الدعم السياسي والمالي والإعلامي للندوة الدّولية للاستثمار رشوة مقابل التّفريط في قطاعات استراتيجية مثل الفلاحة والصناعة والخدمات وذلك بتحريرها قبل تأهيلهاوجعلها قادرة على منافسة المؤسّسات الأوروبية حتى تصبح لقمة سائغة لهذه الأخيرة؟ وللحديث بقية.
فوزي القصيبي