تؤكّد الأحداث مرة أخرى على أنه طالما لم تغيّر الحكومات اليمينية المتعاقبة منوال التنمية فإنها لن تستطيع أبدا تغيير أساليب عملها التي تفضح طبيعة مشاريعها المعادية للثورة وبالتالي تظهرها على حقيقتها. في هذا الإطار تواصل حكومة الائتلاف اليميني الحاكم سياسة التسوّل على وقع “المؤتمر الدولي للاستثمار تونس 2020” وذلك من خلال الزيارتين اللّتين أدّاهما كلّ من رئيس الجمهورية إلى إيطاليا ورئيس الحكومة إلى ألمانيا. لكن المتأمّل في برنامج الزيارة لكل منهما يرى عكس هذه الصورة التي يراد تسويقها، لذلك لن نتوقّف عند الأهداف المعلنة بل سوف نبحث في الأجندة الحقيقة التي تقف وراء هاتين الزيارتين.
اتّفاقيّات بالتّقسيط في إطار الاتّحاد الأوروبي
لقد تمّ التركيز إعلاميا على الاتفاقيات الثنائية المبرمة في عديد المجالات مثل التّعاون الفنّي والتّعليم والصحة والنقل والتنمية المستدامة، وذلك بهدف تقديم صورة ناصعة عن الزّيارتين وطمس حقيقة مضامينها. يجب الإشارة هنا أنّ جميع هذه الاتفاقيات لا تخرج عن إطار “اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق” مع الاتحاد الأوروبي المدمّر للاقتصاد الوطني بما أنه يهدف إلى إخضاع القطاعات الاستراتيجية الثلاثة (الفلاحة والصناعة والخدمات) إلى المنافسة من قبل الشركات العملاقة الأوروبية دون تأهيلها حتى تكون فريسة سائغة لها.
إذا هذه الاتفاقيات لا تعدو أن تكون اتفاقيات بالتقسيط في إطار هذا المشروع الكبير الذي يندرج في سوق الجملة للاتحاد الأوروبي، بينما تبقى وعود الاستثمار حبرا على ورق على غرار مثيلاتها التي أعلن عنها في إطار المؤتمر الدولي للاستثمار الذي انعقد مؤخّرا بتونس، أي أنّ معظمها لن يتجاوز الاستهلاك الإعلامي والتوظيف السياسي، ولن يأتي إلى تونس سوى المستثمرين والمتمعّشين من مجلّتي الاستثمار والتشجيع على الاستثمار التي تمنحهم امتيازات مالية وجمركية وجبائيّة، وأولئك الأجانب الذين يلهثون وراء جني الأرباح عبر استغلال قوة العمل الرّخيصة التي يوفّرها لهم قانون 72 سيّء الذكر.
لكن مقابل التضخيم الإعلامي لهذه الاتفاقيات والوعود الزائفة وقع تغييب متعمّد لمسائل مهمة جدا لأنها تكشف الهدف الحقيقي للزيارتين. حيث فيما يتعلق بزيارة رئيس الدولة إلى إيطاليا فإنّ المباحثات بين الطرفين تركزت بصفة خاصة على مسألة “الهجرة غير الشرعية” أين وقع التذكير بالاتفاقية الممضاة بين البلدين سنة 2011 والتنويه بـ”الجدية” التي تحلّى بها الجانبان في تطبيقه. كيف لا وعدد هؤلاء المهاجرين يعرف منذ ذلك التاريخ انخفاضا ملموسا، حيث أنهم لم يتجاوزوا الألف خلال هذه السنة. واستقبلت تونس 1500 من بين المقيمين “غير الشرعيين” في هذا البلد. بمعنى آخر فإنّ هذه الأخيرة تلقّت شهادة حسن السّيرة على القيام بالدور المناط إليها على أحسن وجه. هذا “التكريم والتّبجيل” أحرج رئيس الجمهورية ومنعه حتّى من مطالبة الطّرف المضيف بتسليط الضّوء على المواطنين التّونسيين المفقودين هناك منذ سنوات.
“اتّفاقيّة التّنقّل” وانتهاك السّيادة الوطنيّة
على عكس رئيس الجمهورية فإنّ رئيس الحكومة التونسي يوسف الشاهد لم يحرز على شهادة الرضا من طرف مضيّفته “أنجيلا مركل” الألمانية التي عبّرت له عن استيائها وعدم رضاها عن أداء السلط التونسية في هذا المجال وذلك بسبب بطء عملية ترحيل التونسيّين الذين لم يتحصلوا على اللجوء والذين يتراوح عددهم بين 1000 و1500، حيث أنه لم يرحل منهم خلال السنة الفارطة سوى 116. وقد أعلمت مركل الشاهد أنّ ألمانيا تعتزم إقامة مخيمات في تونس لاستقبال اللاجئين الناجين من الغرق في عرض المتوسّط والمبحرين من ليبيا، وفي الحقيقة فإنها لم تقم إلاّ بتذكيره بهذا المشروع الذي تمّ الإعلان عنه من طرف وزارة الداخلية الألمانية منذ بداية شهر ديسمبر 2016 كما أوردته المجلة الألمانية “شبيغل”.
لا جدال في أنّ هذا الموقف الصادر عن المستشارة الألمانية يندرج ضمن الحملة الانتخابية التي تخوضها ضد “حزب البديل” اليميني المتطرف والشعبوي الذي يسعى إلى الاستفادة من ورقة الهجرة خصوصا بعد عملية برلين الإرهابية المتورّط فيها تونسي. لكنّ هذا المشروع يتجاوز الإطار المحلي بما أنه يمثّل ركنا أساسيا في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه بلدان جنوب حوض المتوسط.
إنّ إملاءات ألمانيا وإيطاليا على تونس في ملف ما يسمى بالهجرة غير الشرعية يندرج في إطار “اتفاقية التنقل” الممضاة زمن “الترويكا” والتي تنصّ بالخصوص على تكليف الدولة التونسية بحراسة الحدود لمراقبة تدفّق أعداد المهاجرين، من جهة، وتحويل بعثاتها الديبلوماسية إلى شرطة الأجانب داخل الاتحاد الأوروبي وذلك لتسهيل عملية منح تراخيص العودة للتونسيّين المطرودين والذين ليس لديهم أوراق إقامة، من جهة ثانية. وللتذكير فإنّ العديد من الجمعيّات التونسية المقيمة بالخارج تظاهرت أمام السفارة التونسية ببروكسال عند إمضاء تلك الاتّفاقية المنتهكة للسيادة التونسية للتّنديد بها، كما عبّرت للسّفير التونسي عن معارضتها الشّديدة لها.
إذا هذه “الديبلوماسية الاقتصادية” ليست في حقيقة الأمر سوى استجداء وتسوّل لا يجني منها أصحابها سوى الفتات، وتخفي أهدافها الحقيقية التي تتعلق بحفظ أمن السادة الأوروبيين الذين لا يكلّفون أنفسهم مشقّة التنقّل بل يأمرون أعوانهم بالمجيء لكي يُسدوا إليهم الأوامر على طريقة المقيم العام…
فوزي القصيبي