الرّعي مهنة رائجة في تونس في بوادي الجنوب وفي سهول الوسط والساحل ومرتفعات الشمال وفي جبال الغرب والوسط الغربي والشمال الغربي.
لكنّ استهداف الرّعاة لا يوجد إلاّ في جبال ورغة والحزيم بالكاف في الشمال الغربي التونسي، وجبل المغيلة في سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية بالوسط الغربي، وجبال سمامة والسلوم والشعانبي في القصرين بالوسط الغربي أيضا. وهي المناطق المفقّرة التي نسيتها دولة الاستقلال من بورقيبة إلى بن علي. ويستمرّ تجاهلها بعد الثورة من نظام الترويكا إلى ائتلاف الوحدة الوطنية.
إنّ تكرّر عمليات استهداف رعاة الأغنام من قبل الإرهابيّين صار ظاهرة خطيرة تدعو إلى التحليل والتدبّر. فالعمليات محصورة في المكان في جهة الوسط الغربي والشمال الغربي منذ أواخر 2011 أو مطلع 2012 إبّان حكم الترويكا حينما كانت الدولة غافلة عنهم ولاهية عنهم بمشاكلها الاجتماعية المعقّدة، الوقت الذي مكّنهم من العسكرة والتمركز والتحصّن.
وبعد أن طال رصاص الإرهاب التكفيري رعاة تونس من مناضلين سياسيّين مثل الشهيدين شكري بلعيد ومحمد براهمي ومن أمنيّين وعسكريّين كذلك، بدأت خناجرهم ومطاويهم تجول في رقاب رعاة الأغنام تقطعها منذ خريف 2015 في مشاهد وحشيّة عمد الإرهابيّون إلى تصويرها بالفيديو ونشرها على اليوتيوب مرفوقة ببيانات تبنّ من قبل كتيبة عقبة بن نافع وريثة تنظيم أنصار الشريعة أو من “داعش”.
عمليّات استهداف رعاة الأغنام متشابهة في الأسلوب فهي تبدأ بالاختطاف، أوّلا، ثم تعذيبهم والتنكيل بهم، ثانيا، فالإجهاز عليهم بالرصاص أو ذبحا وأحيانا بفصل رؤوسهم عن أجسادهم، ثالثا، تنتهي بنشر فيديو يوثّق للعملية كاملة، رابعا. هذه العمليات تناولها المحللون في تونس بشكل سطحي عموما إذ اكتفوا باعتبارها عمليات انتقامية ممّن تعاونوا مع قوات الجيش والأمن، من ناحية، وتحذيرية لبقية الرعاة من أن يأتوا نفس الصنيع، من ناحية ثانية.
لم يعد هناك مجال للشك في أنّ هذه العمليات دقيقة وغير عشوائية. فرعاة الأغنام في المناطق المذكورة بالمئات وجميعهم في مرمى الإرهابيّين. غير أنّ الاستهداف كان لأنفار بعينهم ممّا يدلّ على امتلاك المجموعات الإرهابية لمعلومات استخباراتية دقيقة حول كشّافي الجيش والأمن. وهذا يعني أمرين؛ الأوّل هو ثبات الحاضنة الشعبية للإرهاب خلافا لأوهام الدولة وأجهزتها، والثاني إمكانية اختراق أجهزة الاستعلامات من قبل التنظيمات الإرهابية التكفيرية بما أطلعها على مصادر المعلومات الأمنية.
آخر عملية اغتيال لراعي أغنام وقعت منذ أسبوع وكانت قوية بالمعنى النفسي وبمعنى الأثر الذي خلّفته في الرأي العام وفي أجهزة الدولة حيث عادت خلية “داعشية” لاغتيال شقيق راع سبق اغتياله في نوفمبر 2015. نفس العائلة المفقّرة تدفع راعيين شهيدين في نفس المكان بعد أن كانت العائلة طلبت الحماية وحصلت على وعد بذلك من الدولة ولكنّها أخلفت.
هناك رسائل دقيقة توجّهها عمليات استهداف رعاة الأغنام في الجبال التونسية في الشمال الغربي والوسط الغربي. من هذه الرسائل أنّ عقاب الإرهابيّين للمتعاونين مع قوات الجيش والأمن واحد هو القتل الشنيع بعد التعذيب. وهو عقاب لا يسبق بتحذير ولا يمنح المعاقَب أيّ فرصة للنجاة.
وهذا العقاب لا يحتمل أدوات التحليل الأخلاقية المعروفة وإنما يدور في فلك نظرية إدارة التوحش التي تنبني أساسا على الإيغال في كلّ ما هو مؤذ ومخيف واستهداف الثوابت والقيم الجامعة الموحّدة للجماعة المستهدفة بالتوحّش قصد إخافتها وتدجينها وترويضها من أجل تطويعها والسيطرة عليها.
لهذا لا يهتمّ الإرهابيّون الذباحون القتلة بالاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية التي تدور في فلكها الانفعالات والمواقف التالية لعمليات استهداف الرعاة في تونس. فالوطنية التي يوصف بها الراعي الضحية بعد استهدافه لا تعني شيئا للإرهابي الذي لا يؤمن طبعا بالوطن. و”خلّي الوطن ينفعك” كما قال الإرهابيّون لخليفة السلطاني آخر راع شهيد وهم يذبحونه مكبّرين في جبال مغيلة بسيدي بوزيد.
ولا يعني الإرهابيّين التركيز على الأم الثكلى أو الأرملة الشابة أو الطفل اليتيم من عائلات الرعاة الضحايا. فكلما كان الراعي الضحية مؤتلفا ومتضاما اجتماعيا كلما كان الحزن عليه أشد والتأثر بفقدانه أعمق وكان أثر العملية أكبر. وهو ما يعتبره الإرهابيّون نجاحا لهم.
الرسالة الثانية موجّهة إلى الشعب التونسي بكل فئاته وطبقاته ومؤسساته. تقول الرسالة دماؤكم جميعا مباحة للإرهاب التكفيري. وإذا لم نَطُل رمزا من رموزكم أو شخصية مهمة من شخصياتكم المتمتعة بالحماية الأمنية فإنّ رعاتكم الذين يطعمونكم بين أيدينا. فإذا حصّنتم المهمّين غفلتم عن الرعاة. وهكذا يجعل الإرهاب نفسه في مواجهة الشعب برمته. وهو من حيث لم يقدّر جعل الشعب التونسي في صراع على البقاء مع الإرهاب.
الرسالة الثالثة موجّهة إلى الدولة التي لم تنجح كليا في حماية قلبها وجوهرها لاسيّما سنة 2015 السوداء إذا تذكرنا عمليات متحف باردو في مارس ونزل امبريال بسوسة في جوان واستهداف حافلة الأمن الرئاسي في نوفمبر على بعد أمتار من مقر وزارة الداخلية، فإنها لم تتمكن أيضا من تأمين سلامة حواشيها وأطرافها لاسيما الرعاة الذين يؤدّون أدوارا عظيمة للدولة والشعب كتوفير ما يلزم من فيتامين البروتين في لحم الخرفان الطبيعي الذي تضعف فيه نسبة الكوليستيرول وما يكفي من الصوف لتحريك مصانع النسيج، إضافة إلى دورهم الطلائعي في الحرب على الإرهاب باعتبارهم كشّافين راصدين للخطر منبّهين إليه فينفع تنبيههم حينا ولا ينفع أحيانا.
الرّسالة الرّابعة لرعاة الأغنام أنفسهم الذين يمثّل استهدافهم بهذه الطرق البشعة المخيفة محاولة لإسكات حسّهم الوطني ولإبقائهم مكتفين بالقوت المتأتي من الزرع والضرع. وهذا وإن وقى رقابهم فإنه لا يقي أغنامهم وأرزاقهم ومدّخراتهم، إذ كثيرا ما كان الرعاة هدفا لغزوات الإرهابيّين يفتكّون أثناءها بعض الخرفان من أصحابها تحت تهديد السّلاح أو يسلبون سكان المناطق الجبلية الفقراء أصلا القليل الذي خزّنوه في بيوتهم لعوادي الأيام.
ولو كان الرحيل إلى هوامش المدن حلاّ للرعاة يمكن أن يحسّن ظروف حياتهم لما بقوا في مرابعهم يوما قاصرين حياتهم على رعي الأغنام. فلا بديل لهم عن الرعي. بهذا المعنى فإنّ رعاة الأغنام في الجهات التي استوطنها الإرهابيّون صاروا عناوين نزاع بين الدولة وبين الإرهابيّين. وكلا المتنازعين يملك القوة والسلاح فيما هم عزّل فاقدون للسند الدائم وللوقاية الاستراتيجية.
ولعلّ استهداف رعاة الأغنام يدلّ، بصورة رمزية لا تتّضح للمتسرّعين، على أنّ عمق الظاهرة الإرهابيّة في تونس تنموي. ويؤكّد ما كرّرناه مرارا من أنّ مقاومة الإرهاب لا تكون فقط بالسّلاح وإنما بالتنمية الحقيقية التي سمّاها دستور 2014 التمييز الإيجابي للمناطق المحرومة. فمتى تعي الدّولة التّونسيّة الدّرس؟
جريدة صوت الشّعب: العدد 250
بقلم مصطفى القلعي: كاتب وباحث سياسي تونسي