بقلم: حمه الهمامي
كنّا نشرنا، يوم 27 جانفي المنقضي مقالا بجريدة “المغرب” حول مسألة المساواة في الميراث. ولم يكن المجال ليتّسع للتعرّض لبقية المسائل الأخرى ذات العلاقة بالأحوال الشخصيّة التي ثار حولها جدل في المدّة الأخيرة إثر ما راج من تسريبات عن أعمال “لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة” التي شكّلها رئيس الدولة. ونعود اليوم لنتطرّق إلى مسألة المهر.
فما أن رشح أنّ من بين المقترحات المتداولة في “اللجنة” إبقاء المهر في قانون العائلة مع إلغاء إلزاميّته وبالتالي التخلّي عن اعتباره شرطا من شروط صحّة الزواج ، حتّى ثارت ثائرة العديد من العقول المحافظة/الظلاميّة لتعتبر هذا المقترح، المحدود وغير المؤكد وغير النهائي، “ضربة للإسلام” بل “كفرا” و”ردّة”. وهذا النهج التكفيري هو نفسه الذي تسلكه الجماعات الظلاميّة في تناول كلّ القضايا، لا في مجال الأحوال الشخصيّة فحسب، بل في كلّ المجالات.
فنحن اليوم ما تزال بين ظهرانينا، أحزاب وجماعات وأشخاص يعتبرون الدستور كفرا، والديمقراطيّة كفرا، والحريّة كفرا، والمساواة كفرا وإلغاء تعدّد الزوجات كفرا والتبنّي كفرا الخ… وحتى البعض ممّن يتظاهرون اليوم بمسايرة تيّار الحداثة، فلا شيء يدلّ على أنّهم لن يعودوا إلى الوراء إذا ما أصبحت موازين القوى لصالحهم، لأنّنا ما رأينا منهم موقفا واضحا من هذه القضايا مؤسّسا على نقد الفكر “الإخواني”، الظلامي ومرجعيّاته المعاصرة والقديمة، وتبنّيا لا لبس فيه للقيم الإنسانية التقدّميّة.
وليس خافيا ما يلجأ إليه هؤلاء جميعا من تضليل في خطابهم التكفيري. إنّ الخلاف الرئيسي حول مسألة المهر مثلا لا يتمثّل فيما إذا كان المهر، (الصداق، الأجر…)، ورد في النصّ أم لم يرد، بل إنّ الخلاف يتمثّل فيما إذا كان المهر، مفهوما تاريخيّا، اجتماعيّا، نسبيّا، قابلا للتجاوز بانتفاء الظروف التي أوجدته، أم أنّه مفهوم مقدّس، ثابت، لا يتغيّر مهما تغيّرت ظروف المجتمعات البشريّة، وركنٌ من أركان الإيمان إن تخلّى عنه المؤمن بطل إيمانه وارتدّ؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي يقع الهروب منه وتتم محاولة طمسه بكلّ الأساليب الديماغوجيّة التي تستخفّ بعقول الناس.
إنّ ما يعمد إليه تجّار الدين وأعداء التقدم في بلدنا، هو أنّهم يخفون عن عامّة الشّعب المعطيات والوقائع التي تمكّنهم من التّمييز بين ما يدخل في نطاق العقيدة، وهو أمر يندرج ضمن الحريّة الشخصيّة التي لا دخل فيها للحاكم والبوليس والإدارة، وبين ما هو أحكام/ تشريعات متأثّرة بالسياقات التاريخيّة التي ولّدتها وهي، حتّى إن وردت في النصّ، نسبية وقابلة للتغيير والتجاوز. وهم يستعملون سلاح التكفير لترهيب الناس وثنيهم عن التفكير في مثل هذا الأمر وفي كيفيّة تطوير حياتهم نحو الأفضل، مُنَصّبين أنفسهم أوصياء عليهم وممثّلين لله فوق الأرض. وهو ما أصبحنا نعيشه يوميّا في بلادنا رغم ما نصّ عليه الدستور من حريّة للعقيدة وتجريم للتكفير.
إنّ أولى الحقائق التي يخفيها الظلاميّون عن عامّة الشّعب، هي أنّ المهر لم يجئ به الإسلام، بل هو سابق له بفترة طويلة. فقد كان “الصداق شيئا مألوفا عند غالبيّة “الجاهليّين”، يخطب الرجل إلى الرجل وليّته أو ابنته فيصدّقها، أي يعيّن صداقها ويسمّي مقداره ثم يعقد عليها. وكانت قريش وكثير من قبائل العرب على هذا المذهب في النّكاح. وما يدفع يُسمّى (الصداق) أو المهر. ويعتبر الصّداق أي المهر فريضة لازمة عند الجاهليّين لصحّة عقد الزواج إذ هو من علاماته ودلالة على شرعيّته” (جواد علي، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء 5، صفحة 530).
وكان المهر، في المجتمع العربي الذكوري، هو الذي تصبح به المرأة “ملكا لزوجها”، يستمتع بها وتخدمه وتنجب له البنين الذين يسمّون باسمه ويتحكّم في تفاصيل حياتها إلخ… فماذا نستنتج من كلّ هذا؟ إنّ ما نستنتجه هو أنّ المهر كان في الأصل شريعة بشريّة، ابتدعها الناس وفقا لظروفهم، لتنظيم علاقاتهم الاجتماعيّة وتحديد نمط زواجهم في عصر كانت فيه المرأة “شيئا” أو “شبه شيء”، لا حقوق لها.
أمّا الحقيقة الثانية التي يطمسها تجّار الدين فهي أنّ المهر لم يكن “مؤسّسة” اجتماعيّة مألوفة عند عرب “الجاهلية” فحسب، بل كان “مؤسّسة” مألوفة أيضا عند أغلب المجتمعات البشرية القديمة التي لم تكن نظرتها إلى المرأة والزواج، بقطع النظر عن خصوصيّاتها الاجتماعيّة والثقافيّة والعَقديّة، تختلف بعضها عن بعض من زاوية طابعها الذكوري، الأبوي، ومن زاوية أنّ اللامساواة كانت القاعدة/ المبدأ/ القيمة السائدة في تلك المجتمعات. فقد كان المهر موجودا عند العبرانيّين وعند الهندوس، بل إنّه كان عادة مقدّسة عند العديد من الشعوب الإفريقيّة، التي تعتبر المهر “سعرا” للعروس يدفعه الرجل للأب للتعويض عن ابنته. ووجد المهر عند الأوروبيّين القدامى أيضا ولو بأشكال مختلفة وذات خصوصيّة إلخ…
فماذا نستنتج من كلّ هذا؟ إنّ ما نستنتجه هو أنّ مؤسّسة المهر لم تكن عادة عند العرب قبل مجيء الإسلام فحسب بل كانت عادة عند العديد من الأقوام الأخرى أيضا حيث كانت ترجمة لعلاقات اجتماعيّة بشريّة ولنظرة محدّدة للزواج وللعلاقة داخله. وبعبارة أخرى فإنّ المجتمعات البشريّة هي التي صنعت المهر وقنّنته قبل أن تنشأ الأديان التوحيديّة الكبرى وتتبنّاه ضمن شرائعها باعتبارها لم تكن خارجة عن السياقات التاريخيّة التي ظهرت فيها.
إنّ الحقيقة الثالثة المطموسة هي أنّ الإسلام حينما ظهر في مكّة والحجاز بالجزيرة العربيّة التي كانت الذكوريّة سائدة فيها لم يبتدع شيئا مخالفا جذريّا لما كان موجودا بل إنّه أقرّ الموجود وفي بعض الأحوال عدّله بعض الشيء. وفي هذا السياق فقد أبقى الإسلام المهر “فريضة لازمة”، كما كان الأمر عند “الجاهليّين”، لصحّة الزواج: «وآتوا النّساء صَدُقاتِهنّ نِحْلة فإن طِبْن لكم عن شيء منه نَفْسًا فكُلُوه هنيئا مريئا”، (سورة النساء، من الآية 4)، “فما استمتعتم به منهنّ فآتُوهُنَّ أجورَهنّ فريضةً…” (سورة النساء، من الآية 24)، “فانكِحُوهُنَّ بإذن أهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمَعْرُوِف” (سورة النساء، من الآية 25)، “وطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والمُحْصَنَاتُ منَ المُؤْمِنات والمُحْصَنَاتُ منَ الذين أُوتُوا الكِتَابَ من قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهَنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ” (سورة المائدة، من الآية 5)، “يا أيّها النبيّ إنّا أحلَلْنَا لَكَ أزواجَكَ اللاتي آتيْتَ أُجُورَهُنَّ” (سورة الأحزاب، من الآية 50)، “ولا جُنَاحَ عليكُمْ أنْ تَنْكَحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنَّ” (سورة الممتحنة، من الآية 10)
وبما أنّ العرب القدامى كان فيهم من “يأكل المهر كلّه أو بعضه” ولا يعطيه بالمرّة أو كاملا لابنته أو من وُلِّي أمرَها، فقد أوصى الإسلام بالعدول عن هذا السلوك وإعطاء المهر كاملا لصاحبته، (إلاّ ما عدلت عنه برضاها). أمّا من حيث المضمون فإنّ مفهوم المهر لم يتغيّر. وهو ما نجده في كتب التفسير القديمة الأقرب إلى ذهنيّة العرب والمسلمين الأوائل الذين خاطبهم القرآن بلغتهم، ولم يكونوا تحت ضغط مفاهيم حديثة وعصريّة تضطرّهم إلى الإسقاطات كما هو الحال اليوم.
فالمهر حتّى بمفهومه الإسلامي، هو “الأجر الذي أعطاها (أي أعطاه الرجل إلى المرأة)، على تمتّعه بها” (ابن كثير)، “كما تستمتعون بهنّ فآتوهنّ مهورهنّ في مقابلة ذلك”، “وسمّي المهر أجرا لأنّه أجر الاستمتاع. وهذا نصّ على أنّ المهر يسمّى أجرا وذلك دليل على أنّه مقابل البضع” (القرطبي)، “فما نكحتموه منهنّ فجامعتموه فآتوهنّ أجورهنّ” (الطبري) إلخ… وبعبارة أخرى فإنّ الإسلام لم يخرج عمّا كان سائدا من مفاهيم ومن نظرة ذكوريّة، أبويّة للمرأة والزواج في العصر الذي أتى فيه ونبع منه ممّا يجعل أحكامه غير مطلقة بل وليدة الظروف التي ظهرت فيها.
إنّ المشكل ليس في كون الإسلام تبنّى مؤسّسة المهر كما اعتمدها الناس في صياغة نمط زواجهم وعائلتهم وفق ظروف عصرهم، بقدر ما هو في تفكير الذين يصبغون مؤسّسة المهر اليوم بصبغة قدسيّة، إطلاقيّة، صالحة لكل زمان ومكان، رافضين تنسيبها والتخلّي عنها بحكم تطوّر المجتمعات البشريّة التي أخذت تتجاوز في العصر الحديث، النظرةَ الدونية للمرأة التي ظلّت قائمة لفترة تاريخية طويلة.
لقد تمّ إلغاء مؤسسة المهر في معظم تشريعات العالم لما ارتبط بها من إذلال للمرأة واضطهاد مادي ومعنوي لها، وما زال يرتبط. ولا يذهب في ظنّ البعض أنّ المهر ألغي في الدول الأوروبيّة والغربيّة فحسب، بل إنّه ألغي في الهند منذ عام 1961 ومنع في الكوت ديفوار منذ عام 1964 وجرّمت ممارسته. كما منع في بوركينا فاسو وأوغندا وغيرهما من الدول. وفي الكاميرون تمّ التخلي عن المهر شرطا لصحة الزواج منذ عام 1961.
المساواة الآن وهنا :
أمّا في بلادنا فقد ظلّ المهر شرطا لصحّة عقد الزواج، رغم تحوّله إلى مسألة هامشيّة من الناحية المادية بتحديد مقداره بدينار واحد. ولكنّ الحفاظ عليه شرطا من شروط صحة الزواج لم يكن إلاّ جزءا لا يتجزّأ من الحفاظ على منظومة زواج ذكوريّة أبويّة حتى وإن ألغيت منها بعض المظاهر الهامّة كتعدّد الزوجات والتطليق إلخ… ولكن كيف يمكن اليوم تكريس مبادئ الدستور التي تنصّ على المساواة و في نفس الوقت مواصلة العمل بالمهر بأية صيغة كانت؟
إنّ المسألة لا تحتمل اللفّ والدوران، فإمّا أن توجد إرادة لتكريس المساواة أو لا توجد. إن المهر مهين للمرأة، لأنه يرمز في كل المجتمعات الذكورية، الأبوية، إلى تملّك جسدها والاستمتاع به. ولا تجدي نفعا كل محاولات تجميل هذه العادة/المؤسسة والإيهام بأنها “إكرام للمرأة” فحتى الضرب قيل عنه في وقت من الأوقات بأنّ فيه “شفاء” للمرأة “الناشز”. والمهزلة كل المهزلة اليوم أن يتمخض عمل “اللجنة” عن إبقاء المهر كما هو والإحجام حتى عن تعديله بعد أن كذّبت رئيسة اللجنة ما راج حول إمكانية التخلي عن إلزاميته.
إنّ مجتمعنا في حاجة إلى نقاشات معمّقة وجريئة حول عديد القضايا من بينها ما يتّصل بالأحوال الشخصيّة. ولا يمكن لنا خوض هذه النقاشات دون وضع حدّ للخلط بين العقيدة من جهة والمسائل الاجتماعيّة والسياسيّة من جهة ثانية. إنّ هذا الخلط، الذي لم تحسمه تاريخيا إلاّ العَلْمانية بالفصل بين الديني والدنيوي، هو الذي يعقّد حياة الناس العاديين ويربكهم ويجعلهم لا يعيشون حاضرهم ولا ينهضون بأوضاعهم وأوضاع وطنهم.
إنّ إعلان المساواة القانونيّة التامّة بين الرجل والمرأة خطوة لا بدّ من قطعها اليوم حتى نلتحق بالمدنيّة. وعلينا أن ندرك أنّ الزواج الأخلاقي الوحيد هو الزواج القائم على حريّة الاختيار بين كائنين بشريّين متساويين في الحقوق، خارج أيّة ضغوط ماديّة أو معنويّة، وأنّ العلاقات العاطفيّة/الجنسيّة التي تعدّ الوحيدة أخلاقيّا هي العلاقات القائمة على الحبّ المتبادل، وأنّ العائلة الأخلاقيّة الوحيدة هي العائلة القائمة على المساواة التامّة والفعليّة بين الزوجين وعلى التعامل الديمقراطي داخلها. ومن هذا المنطلق علينا قطع كل رابط بين الحب والزواج من جهة والمال من جهة أخرى حتى يتسنّى لنا تحقيق إنسانيّتنا.
إنّ هذا المبتغى لن نبلغه بالتأكيد بمجرّد سنّ قوانين جديدة بل يتطلّب تغييرات جذريّة في البنى الذهنية والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة للمجتمع بهدف خلق الأرضيّة الملائمة لعلاقات إنسانيّة جديدة، في إطار جمهوريّة مدنيّة عَلْمانيّة ديمقراطيّة اجتماعيّة. ولكن إلى حين أن تتوفّر لنا الفرصة لقطع خطوة نوعية نحو هدفنا الكبير علينا ألاّ نضيّع فرص التغيير مهما كانت جزئية لأنّها ستمهّد بكلّ تأكيد لخطوات أخرى، ربّما نوعية، على طريق تحرّرنا الشائك.
نشر بجريدة المغرب العدد 1973 بتاريخ 03 فيفري 2018