بقلم عبد الجبار المدوري
في اللّقاء التلفزي الذي جمع رئيس الحكومة، بالصحفيين يوم 3 مارس الجاري أكّد هذا الأخير انحيازه الواضح لأصحاب الثروات وتحميل مسؤولية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تنخر البلاد منذ وصول الترويكا إلى الحكم، إلى الشغالين والأجراء والفئات الضعيفة، مستخلصا أنّ الحل هو مزيد تفقير هؤلاء من خلال عدّة إجراءات وعد بتنفيذها قبل إتمام ولايته.
أمّا في الجانب السّياسي والأمني فإنّ المهدي جمعة ردّد نفس الكلام ولم يعلن عن اتّخاذ إجراءات حاسمة.
المفقـّرون هم سبب الأزمة !!!
عند تطرّقه إلى الوضع الاقتصادي قال المهدي جمعة أنّ الوضع “أصعب ممّا كنّا نتصوّر” وخاصة في ما يتعلق بالعجز الذي تعاني منه الميزانية، نظرا لكثرة المصاريف وقلّة الموارد وهو ما دفع بالدولة إلى مزيد الاقتراض الذي لم يوجّه للتنمية بل وُجّه للاستهلاك وسداد ديون قديمة وتغطية نفقات الدولة، على حدّ تعبيره. وقدّم جمعة العديد من الأرقام التي تؤيّد كلامه مركّزا على أنّ من بين أسباب تزايد المصاريف هو تضخّم الانتدابات في الوظيفة العمومية والعبء الذي تتحمّله الدّولة في دعم المواد الأساسيّة وفي مساعدة القطاع العمومي إلخ… ومن خلال هذه الاستنتاجات وجد رئيس الحكومة الحلّ “السحري” في إيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية وتجميد الأجور ومزيد الاعتداء على قفّة المواطن من خلال “ترشيد” صندوق التعويض تمهيدا للتخلّي عنه نهائيا. والبداية كانت بالطماطم في انتظار الزيت والخبز والبنزين إلخ… إلى جانب تخلّي الدّولة عن دورها الاجتماعي وعدم دعمها للقطاع العمومي بما في ذلك قطاع الخدمات الأساسية (التعليم، الصحة، النقل…) التي لم يستثنها المهدي جمعة من المؤسسات العمومية التي قال بأنها مفلسة وعليها معالجة أوضاعها بنفسها لأنّ الدولة لم تعد قادرة على “مساعدتها”…
ولم ينس المهدي جمعة التأكيد على ضرورة أن ينصرف “الجميع” إلى العمل والكدّ والكفّ عن تعطيل المؤسسات حتى تقوم بدورها، وهو يقصد الاحتجاجات الاجتماعية المشروعة التي تطالب بالعمل وتحتجّ على تدهور ظروفها الاجتماعية وتصاعد وتيرة الاستغلال. بمعنى آخر فهو يقول للفقراء: “موتوا جوعا واسكتوا..!”.
مغازلة الأقلّيّة المستثرية وغضّ الطرف عن فسادها
رغم تحميله كلّ كوارث البلاد الاقتصادية والاجتماعية للفئات الفقيرة والضعيفة ومطالبتها بمزيد التضحية واعدا إيّاها بإجراءات جديدة تزيد من فقرها، فإنّه بالمقابل بدا وفيّا لخيارات الأقليّة التي تحكم تونس والتي أوصلته إلى هذا المنصب. فهو لم يحمّلها أيّ مسؤولية في ما وصلت إليه أوضاع البلاد… لم يتحدّث عن الثراء الفاحش غير المشروع ولا عن الفساد المستشري في المؤسّسات الكبرى ولا عن الاستغلال الكبير الذي يتعرّض إليه العمّال الذين يعانون من انعدام أبسط حقوقهم بما في ذلك حقّهم في أجور تتناسب مع جهدهم ومع غلاء المعيشة وحقّهم في الترسيم وفي التغطية الاجتماعية وتحسين ظروف الشغل واحترام ساعات العمل والعطل السنوية والمنح وغيرها من المظالم التي يتعرّض إليها العمّال. بل وأكثر من ذلك فإنّ رئيس الحكومة تناسى أنّ الأوضاع الصعبة التي تحدّث عنها إنما هي تركة لحكومة كان هو عضوا فيها وأنّ هذه الحكومة كانت تتباهى بإنجازاتها المزعومة، وتردّ على منتقديها متّهمة إيّاهم بالتجنّي عليها…
مزيدُ رهن البلاد للدّوائر الأجنبية
المهدي جمعة يرى أنّ الحلّ الأمثل لمواجهة عجز الميزانية هو التسوّل على أعتاب مؤسّسات النّهب الدّوليّة والتوجّه إلى الرجعيّات العربيّة وخاصّة دول الخليج للبحث عن حلول لديها دون أن يدلّنا على طبيعة هذه الحلول، وهو ما يعني أنّ المهدي جمعة مازال يسير على نفس نهج أسلافه من الحكومات التي أغرقت البلاد في المديونيّة وتلاعبت بكرامتها حتى أضحت سياستها مملاة من طرف هذه الدوائر التي لا يهمّها خبز المواطن وحريّته وكرامته بقدر ما يهمّها استرجاع قروضها وإبقاء بلادنا تحت رحمتها… وفوق كلّ ذلك فلو أنّ المديونيّة هي الحلّ فلماذا إذن لم تسهم في إخراج البلاد من أزمتها في ظلّ الحكومات المتتالية منذ سقوط بن علي؟ بل لماذا لم تنقذ المديونية بن علي ذاته؟ أليس لأنها جزء من المشكل وليست جزء من الحلّ؟
ولئن تعرّض مهدي جمعة إلى موضوع الاكتتاب الوطني، وهو مقترح كانت تقدّمت به الجبهة الشعبية ضمن حزمة من الإجراءات المترابطة في إطار التعويل على القدرات الذاتية، فإنّه لم يثر بالمرّة موضوع الأموال الطائلة التي يمكن للدّولة استرجاعها من خلال إلزام رجال الأعمال بدفع ما تخلّد بذمّتهم من ضرائب مع التدقيق في حساباتهم وأرباحهم وفرض ضريبة استثنائية على الثروات الطائلة ومصادرة الأملاك والثروات التي تمّ جمعها بطرق غير شرعية في زمن المخلوع وحتى في الثلاث سنوات الأخيرة وفتح ملفات الفساد واسترجاع أموال الدولة إلخ… كلّ هذه الحلول وغيرها لم يتعرّض إليها المهدي جمعة لأنّه بكلّ بساطة لا يريد تحميل الأزمة للمتسبّبين الحقيقيّين فيها.
لا جديد في السياسة والأمن
مهدي جمعة يعتبر وصول فريقه إلى الحكومة نجاحا سياسيّا في حدّ ذاته. ونحن لا نفهم سرّ هذا النجاح دون إصلاحات اقتصادية وإجراءات عاجلة للفئات الفقيرة والجهات المحرومة. فإذا كان رئيس الحكومة يعتبر مجرّد تغيير حكومة بحكومة أخرى لها نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية نجاحا سياسيّا فإنّنا نذكره بأنّ الشعب التونسي لم يقم بثورة من أجل تغيير شكلي في المجال السياسي بل قام بثورة من أجل تغيير السياسة الاقتصادية والاجتماعية حتى تكون في خدمة الشعب وليس في خدمة أقلية جشعة محلية وأجنبية.
وفي علاقة بالملف الأمني لم يتطرّق المهدي جمعة إلى ملف الشهداء وضرورة كشف الحقيقة، خاصة في ملف الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وتتبّع بعض المسؤولين الأمنيين وغيرهم ممّن حامت حولهم شبهات بخصوص التحريض على العنف وحتّى التواطؤ مع الإرهاب. وفي علاقة برابطات حماية الثورة وتحييد المساجد اكتفى بترديد نفس الكلام الذي كان يردّده علي العريض وهو”أنّ كلّ الملفّات سيقع حلّها بالرّجوع إلى القانون وإلى القضاء” دون أن يعطي موقفا سياسيا واضحا.
ولعلّ الملفّ الوحيد الذي قدّم فيه المهدي جمعة حلولا ملموسة هو ملفّ التعيينات والذي شمل أغلب الولاّة في انتظار تغيير المعتمدين والعمد، متجاهلا التعيينات في الإدارة متعلّلا بأنّه لا يمكنه القيام بتغيير إداريٍّ كفء بسبب انتمائه السياسي، وهو موقف غامض يخلط بين التّعيينات على أساس حزبي والتي قامت بها حركة النهضة لأسباب سياسية وانتخابية وبين التعيينات التي تمّت على أساس الكفاءة ومن خلال مناظرات قانونية بغضّ النّظر عن الانتماء السياسي لأصحابها.
وحتّى في علاقة بالانتخابات التي كان من المفروض أن يعلن المهدي جمعة عن قرارات حاسمة بخصوصها وخاصّة التزامه بإجرائها قبل نهاية السنة وضبط رزنامة لذلك فإنه أيضا اكتفى بالكلام العام دون تحديد أو تدقيق.
“مخ الهدرة”
خلاصة القول (أو مخّ الهدرة كما يقول التونسي)، فإنّ المهدي جمعة لم يأت بجديد بخصوص معالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي وسار على نفس سكّة أسلافه محمّلا المسؤوليّة للشّغّالين والأجراء واعدا إيّاهم بمزيد من التفقير وتكثيف الهجوم على قفّتهم وجيوبهم، ولم يقدّم حلولا للعاطلين وللجهات المحرومة بل “بشّرهم” بوقف الانتدابات في الوظيفة العمومية وذرّ الرّماد في عيونهم من خلال التلويح بإعادة إحياء مشاريع ثبت عدم جدواها وفاعليتها بعد تخلّي الدّولة عن دورها الاجتماعي وخاصة في التشغيل وفي الخدمات الاجتماعية.