ارتبط الجنوب الشرقي المتشكل من ولاية قابس وتطاوين ومدنين بثلاث خصائص خلال الستون سنة الماضية، وهي إنتاج الطاقة والصناعات المرتبطة بها والهجرة إلى الخارج واقتصاد التهريب بمختلف أشكاله. وهي ثلاثة قطاعات قائمة على أساس الربح باعتبارها ذات دخل وافر سواء للأفراد أو المؤسسات الخاصة والعمومية.لكن مقابل ذلك ومع مرور الزمن تبيّن أنّ تلك القطاعات هي ذاتها حوّلت الإقليم إلى نقمة على أهله من جرّاء التلوث البيئي نتيجة عدم التحكم في المواد الصناعية والكيماوية سواء في البحر أو في الغابات أو المناطق السكانية وعلى الأراضي الفلاحية. أمّا التهريب فقد استبدل الاقتصاد المنظّم والتّنمية وحوّل المنطقة تدريجيا إلى منطقة توتّر دائم اجتماعيا واقتصاديا، وساهم في تشكيل بيئة حاضنة لعدد مهم من الظواهر الاجتماعية ذات الانعكاسات السلبية على المنطقة وعلى المجتمع التونسي بأسره. أمّا الهجرة إلى الخارج ورغم أنها ساهمت في تحسين الوضع الاجتماعي للأهالي وفي تطوير قطاع العقار والاستثمار الخدماتى إلاّ أنها كانت أحد الأسباب الرئيسية في الصافي السلبي من عدد السكان بالإقليم وخرّبت الذهنية العامة عبر فكرة الهجرة أفضل وهي الحل دون سواها. لكن الجنوب الشرقي يحتوي على عدّة عناصر أخرى تجعله دون منازع قطب متقدم في إنتاج الثروة المتعددة والمتنوعة، ولكنه الآن رغم ما يدّخره من ثروات يبقى متأخرا تنمويا لأنّ المعادلة التنموية التي تأسس عليها تقوم على نهب الثروة والبحث عن الرّبح قبل الإنسان والطبيعة والمجتمع والدولة بما فيه تدخل الدولة ذاته.
الخارطة البيانيّة ومعطيات حول الثّروة بالجنوب الشّرقي
تمتدّ مساحة الإقليم على 55222 كلم مربّع وهي مفتوحة على الحدود الليبية وعلى البحر والصحراء والجبال وغابات النخيل الشاسعة، وتعتبر ولاية تطاوين لوحدها ربع مساحة البلاد التونسية لاعتبار عمقها الصحراوي. كما يقطنه حوالي (1003273) مليون وثلاثة آلاف نسمة وفقا لإحصائيات سنة 2014. يحتوي الإقليم على 33 بلدية.
إقليم الجنوب الشرقي يمتاز قبل التطرق إلى بقية ثرواته بالحضور البشري منذ العصور القديمة. لقد كان آهلا بالسكان قبل غيره من المناطق ليس على مستوى بلادنا بل على مستوى التواجد الحضاري للبشر. فالحفريات الاركيولوجية أكّدت على ذلك بكل من منطقة وادي عين دكوك وجرجر والدويرات والكهوف الصخرية بغمراسن. كما أثبتت تلك الحفريات تواجد الديناصورات بالمنطقة وغيره من مكونات ومظاهر الحياة النشطة للإنسان والطبيعة.
علاوة على الثروة البشرية والتاريخية تمتدّ واحات النخيل بقابس لتبلغ حوالي 300000 نخلة. كما تحتوي على المياه الجوفية والمياه الحارة وعلى ثروة سمكية مهمة، ناهيك عن الإنتاج الفلاحي وتربية الماشية وخاصة منها بنت بيئتها. ومن بين الثروات المتواجدة بالإقليم والتي يتفرّد بها من حيث الكميات على الأقل الطاقة مثل الغاز والنفط والمناجم المتعددة المواد منها الرخامية ومنها الأسمدة وغيرها. لذلك تركزت بالإقليم وحدات صناعية حول إنتاج الطاقة وتمثلت أساسا في الصناعات التحويلية سواء للمواد الخام أو المكررة ومنها بالأخص المواد الكيماوية. كما أنّ الإقليم يحتوي على ميناء صناعي بقابس متكون من 12 محطة لرسّو السفن.
وللإقليم مصادر ثورة لا تحصى من بينها محيطة الجنوبي المفتوح من ناحية على بقية ولايات الجنوب وكذلك على الوسط إضافة إلى الانفتاح الإقليمي والدولي على المستوى البحري.
كل هذه المؤشرات تؤكد أنّ إمكانيات هذه المنطقة من حيث الثروات الطبيعية الباطنية والبحرية والبرية ذات أهمية تجعل من الإقليم قطب إنتاجي وتنموي يمكن أن ينقل المتساكنين نحو الرقي الاجتماعي والحضاري في علاقة شاملة بالبلاد التونسية مجتمعا ودولة. وتعتبر السياحة والتجارة والخدمات من بين مصادر الثروة بالمنطقة لما تتوفر عليه من أساسيات لتلك القطاعات.
المنوال التّنموي الحالي: إهدار للثّروة وتدمير للطّبيعة وتفقير للإنسان
رغم المعطيات التي تؤكّد كلّها على أنّ إقليم الجنوب الشرقي يزخر بالثروات المتعددة النوعية والكمية منها، إلاّ أنّ الحركات الاحتجاجية المنادية بالتنمية، والإنذارات التي يطلقها المتساكنون من تفاقم التلوث والأمراض الناتجة عن تفشيه إضافة إلى التلوث البيئي نتيجة المواد الكيماوية واستحالة استعمال مساحات مهمة من الشواطئ نظرا لتسرّب نفايات الصناعات الطاقية. كلّ ذلك يبعث عن التساؤل حول نتائج التجربة التنموية الحالية وهي التي تمّ رسم ملامحها منذ عشرات السنين. كما نلاحظ أنّ الاحتجاجات التي هزّت “الكامور” بداية سنة 2017 وزيارة رئيس الحكومة لتقديم حلول خلال تلك الفترة لم تمكن المنطقة من الخروج من نفس الدوامة الاجتماعية والاقتصادية، بل بلغ الأمر برئيس الجمهورية الإعلان يوم 10 ماي 2017 في خطابه عن تكليف القوات المسلحة بتأمين مواقع الإنتاج الطاقي خاصة. لذلك سوف نقدم بعض المؤشرات الدالة عن نتيجة التنمية بالإقليم حتى نتمكن من الإجابة عن سؤال هل أنّ التنمية الحالية تحتاج إلى بعض التعديلات والإصلاحات أم أنها تحتاج إلى بديل تنموي مغاير تماما وفقا لرؤية اقتصادية واجتماعية أخرى مغايرة لما هو موجود الآن؟
ففي قابس بلغت نسبة النمو بين 2004 و2014 حدود 0,89 بالمائة وخلال نفس الفترة بلغت بولاية تطاوين نسبة 0,4 بالمائة. أما بولاية مدنين فهي لم تتجاوز الصفر فاصل مثل الولايتين المذكورتين. أما مؤشر التنمية الجهوية لسنة 2018 فبلغ بولاية تطاوين وتقريبا مثله بولاية مدنين نسبة 0,48 بالمائة وفي قابس بلغ نسبة 0,50. يتبين من خلال أهم مؤشر أي نسبة النمو أنها لا تتجاوز عتبة الصفر بالولايات الثلاثة.
إذا عدنا إلى ولاية قابس فنجد نسبة البطالة في حدود 25,8 بالمائة أي أنها متجاوزة للمعدل الوطني بـ10 نقاط كاملة وذلك خلال سنة 2017. في حين بلغت نسبة الأمية سنة 2014 في صفوف السكان دون 15 سنة 17,2 بالمائة ونسبة 15,9 بالمائة نسبة الفقر بالولاية وفقا لأرقام سنة 2015. أمّا في المجال الاقتصادي فالفلاحة والصيد البحري لم تتجاوز 12,62 بالمائة مقابل 49,13 في قطاع الخدمات. وبشكل يكاد يكون نفسه نجده بولاية تطاوين نسبة البطالة 32,4 بالمائة وفقا لأرقام 2017 كنسبة عامة بالولاية تصل إلى 38,13 برمادة ونسبة الأمية دون سن 15 سنة بلغت 18,2 ونسبة الفقر 15 بالمائة حسب أرقام 2015. كما نجد تراجعا هيكليّا في الصناعات المعملية والخدمات ذات الصلة بلغ نسبة 12,4 بالمائة من الاستثمارات المصرّح بها خلال الأشهر الأربع الأولى من سنة 2019 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2018. كما أنّ عدد المؤسسات التي تشغل أكثر من 10 أشخاص لا تتجاوز بكامل الولاية 3807 مؤسسة في ولاية من المفترض أن يكون عدد المؤسسات في القطاع الطاقي فقط أضعاف هذا الرقم على الأقل. كما نجد بولاية مدنين وتحديدا بمعتمدية سيدي مخلوف نسبة الأمية التي تطال الأطفال دون سن 14 سنة تبلغ 22,34 بالمائة وبين 15-29 سنة نسبة 5,45 بالمائة وتعني النسبة أنّ أهم مسألة تربط الدولة بالمواطن مختلّة تماما ليعوضها الجهل في زمن العلم والمعرفة كسلاح وأداة لا يستعاض عنها في بناء المجتمع والتنمية.أمّا نسبة البطالة بالولاية فتبلغ في معتمدية بنى خداش نسبة 21,89 بالمائة.ووفقا لإحصاء سنة 2017 فإنّ نسبة الفقر بالولاية أي النسبة العامة بلغت 24,5 بالمائة.علما وأنه على سبيل التذكير تساهم ولاية تطاوين لوحدها بنسبة 40 بالمائة من النفط على المستوى الوطني و19 بالمائة من الغاز و30 بالمائة من المحروقات من الإنتاج الإجمالي التونسي سنة 2017.
تبدو الأرقام مفزعة سواء المتعلقة بالتنمية أو ببقية المؤشرات المتصلة بإطار العيش. والمتمعّن في الأرقام لا يمكن أن يستنتج سوى أنّ التنمية غائبة بالإقليم وأنّ العملية الاقتصادية برمّتها لا تعدو أن تكون سوى عملية نهب للخيرات دون أيّ اعتبار للبشر وللفضاء الطبيعي والاقتصاد الوطني.
لكن الأمر لن يتوقف عند هذه الحدود، بل يتوجّب التدقيق في مؤشرات إطار العيش المتصل بالصحة والتعليم والبنية التحتية والهجرة الداخلية لفهم تمظهرات التنمية ودور الدولة في المنطقة مقابل ما تحصده من أموال طائلة منذ عشرات السنوات.
نلاحظ أنّ بعض مناطق الإقليم مثل ولاية مدنين وفي بعض معتمدياتها لا يتجاوز التزود بالماء الصالح للشراب 65 بالمائة مثل سيدي مخلوف وهو ما يعني كذلك غياب شبه تام لاستغلال الأراضي الزراعية بتلك المناطق. كما أنّ عدد التلاميذ بولاية مدنين يبلغ 46661 تلميذ سنة 2014 خصّص لهم 249 مدرسة ابتدائية وبنفس الولاية لا نجد سوى 4 مستشفيات جهوية و3 مستشفيات محلية و116 مركز للصحة الأساسية. أمّا شبكة الطرقات بكامل الولاية فتبلغ 4960 كلم.
بالنسبة إلى ولاية تطاوين نجد 11 دار شباب بها 1057 منخرطا على كامل الولاية. وصفر مركّب للطفولة في حين أنّ عدد رياض الأطفال، عمومي وخاص يبلغ عددها 10. أما عن المحاضن ورياض الأطفال التابعة للبلدية فنجد واحدة بكامل ولاية قابس تاركين المجال للخواص ليلعبوا الدور في غياب تام للمؤسسات العمومية.
هل نمتلك رؤية تنمويّة بديلة عن الحاليّة أم لا؟
من خلال الأرقام ومن خلال الوضع الاقتصادي والاجتماعي للإقليم ومن خلال الحركات الاحتجاجية والتقارير المتعلقة بالبيئة والصحة وغيرها من المعطيات تدلّ كلّها أنّ المنوال التنموي المعتمد سواء وطنيا أو جهويا أو إقليميا ليس إلاّ عملية فاشلة لأنها تقوم على الربح ونهب الخيرات دون التعامل مع التنمية كمخطط للعيش المشترك، من ناحية بين السكان وبقية المجتمع التونسي ومن ناحية في علاقة الإنسان بالفضاء الطبيعي باعتباره الإطار الأساسي لذلك العيش المشترك. ودون مواربة فإنّ إصلاح أو تعديل المنوال التنموي الحالي لا يمكن أن يؤمّن تنمية مستدامة ولا يمكّنه من تحقيق نمو مطلوب ولا تركيز إطار عيش وبينة تحتية بالولايات الثلاثة. إننا نتحدث عن ازدهار اقتصادي واجتماعي على كافة المستويات يمكن أن يبلغ معدل النمو بها حدود 10 و11 نقطة وليس صفر فاصل كما هو الحال الآن.
السؤال الذي لا مفر منه، هل هناك إمكانية وهل هناك عناصر بمقتضاها يمكن أن يتم بلورة مشروع تنموي يهدف إلى تجاوز عتبة العشرة بالمائة نمو سنوي في المستقبل أم لا؟
كافة المعطيات التي قدمناها تدلل على أنّ الإمكانية موجودة ولكن رهينة رؤية جديدة للتنمية بالمنطقة وطريقة التعاطي مع الموارد وأسلوب عيش البشر.
من بين النقاط التي يمكن أن تساهم في بديل تنموي ثوري بالإقليم العناصر التالية:
- إعادة هيكلة قطاع الطاقة إنتاجا وتوزيعا وإعادة تنظيم الصناعات المترتّبة عنه وفقا لمقاربة وطنية تنموية تتعامل مع الطاقة وفقا لضوابط الشفافية والسلامة وتكون عصرية والتخلي التدريجي عن الأدوات القديمة واستبدالها بجيل جديد من المعدات حيث تكون الدولة في قلب العملية كضامن للصالح العام وليس كمدافع عن شركات النهب والسمسرة.
- إعادة تنظيم الفضاء الفلاحي واستغلال الأراضي الصالحة للاستغلال عبر فلاحة عصرية ومخطط لها من حيث الإنتاج الوطني ودور الإقليم في ذلك.
- بعث مناطق لتربية الماشية بمواصفات عصرية واستغلال الخصوصية المناخية والجغرافية في ذلك.
- تركيز منظومة غذائية بديلة وصناعات غذائية متنوعة صالحة للاستهلاك المحلي وللتصدير باعتماد مبدأ الكفاية الوطنية قبل التصدير للحفاظ على التوازن الاجتماعي والإنتاج.
- اقتصاد اجتماعي تضامني ينخرط فيه المواطن كجزء من عملية الإنتاج وليس كأداة.
- إعادة بعث وإحياء الغابات والإنتاج الغابي كعنصر تنموي بالإقليم.
- تهيئة الموانئ والحفاظ على المحيط البحري.
- القضاء على التلوث البيئي ومصادره المتأتية أساسا من المواد الكيماوية عبر إعادة تنظيم الأقطاب الصناعية بما يتلاءم والفضاءات السكانية والطبيعية مثل الدول المتقدمة التي عالجت الموضوع منذ عدة سنوات.
- إعادة تنظيم الفضاء الحضري بطريقة عصرية.
- تطوير أسطول الصيد البحري وتنظيم كافة المجالات المتعلقة به.
- استغلال الكنوز السياحية المتعددة والمتنوعة في المجال السياحي والخدماتي بالإقليم في اتّجاه خلق قطب سياحي بامتياز.
- بنى تحية وإطار عيش يضمن كرامة المواطنين.
- تشبيك المدينة والريف وتحطيم العزلة المفروضة عليهما.
- اعتماد سياسة ثورية للتعاطي مع الماء حاضرا والتخطيط له مستقبلا.
كلّ ذلك ليس بالمستحيل، فقط يتطلّب دولة وطنية وقيادة سياسية ثائرة على الوضع الحالي وذات رؤية تنموية ثورية تنهض بالبشر والحجر.