انعقدت بالعاصمة البحرينية المنامة يومي 25 و26 جوان ورشة اقتصادية تحت الإشراف المباشر للولايات المتحدة الأمريكية لفرض رؤيتها للحل الشامل للصراع العربي – الصهيوني وتصفية حقوق الشعب الفلسطيني تصفية نهائية بما فيها حق العودة. شكلت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين رأس حربة هذا المشروع الامبريالي – الصهيوني الذي أُصطُلح على تسميته منذ مدة بـ”صفقة القرن” مع مشاركة كل من مصر والأردن ودول عربية أخرى ودولة الكيان الصهيوني بوفود غير رسمية.
تطبيع من بوّابة الاقتصاد
أعلن مستشار الرئيس الأمريكي وصهره جاريد كوشنر عن تفاصيل خطة “صفقة القرن” المتمثلة في تعبئة مبلغ 50 مليار دولار، تكفّلت السعودية والإمارات بتوفير أغلبها وتنزيلها في صندوق استثماري عالمي. وحسب مسؤولين في إدارة ترامب فإنّ هذه الخطة تقوم على “نهج الاقتصاد أوّلا لإحياء عملية السلام “الاسرائيلية” الفلسطينية المحتضرة” بتمويل 179 مشروعا للبنية التحتية والأعمال وإنفاق أكثر من نصف الاعتمادات المالية في الأراضي الفلسطينية على مدى عشر سنوات وتقسيم المبلغ المتبقّي بين مصر والأردن ولبنان رغم إعلان هذا الأخير مقاطعته لأشغال المؤتمر.
إنّ ورشة البحرين أو “ورشة السلام والازدهار” كما يطيب لمنظّميها تسميتها، ليست سوى إعادة إنتاج لمسار أوسلو الذي وصل إلى آخر النفق المسدود، كما أنها جرعة أوكسجين للاقتصاد الأمريكي المتأزّم. فمن البديهي أنّ صفقات إنجاز المشاريع المعلنة، هذا إن دخلت حيّز التنفيذ بطبيعة الحال، ستذهب إلى الشركات القطرية الأمريكية. كما أنها تتنزل في إطار مواصلة الرئيس الأمريكي ترامب ابتزاز الأنظمة الرجعية الخليجية التي لم تنخرط في سياسة التطبيع فحسب بل إنها تكفّلت بتمويل هذه السياسة في المنطقة العربية وجعلها أمرا واقعا بفرض الضغوطات على الأنظمة المترددة والعاجزة عن مواجهة ردة فعل شعوبها، وهو الدور الذي تلعبه قطر والإمارات والسعودية في تونس على سبيل المثال. فمهما احتدّ التنافس والصراع بين المحور القطري والمحور السعودي فإنهما متّحدان في تنفيذ المخططات الامبريالية في المنطقة بل ومتنافسان على الحصول على مرتبة “العميل المتميز”.
مفارقة التّطبيع في سياق عربي ثوري
أثار تنامي مظاهر التطبيع العلني مع الكيان الصهيوني، في سياق تاريخي تميّز بثورات وانتفاضات شعبية هزّت أركان المنطقة العربية وما تزال، دهشة واستغراب الملاحظين وصل أحيانا حدّ النقمة على هذه الثورات وتوصيفها “بالربيع العبري”. وهي ردة فعل اعتباطية وعفوية تبحث عن الأجوبة الجاهزة لتفسير ما تمرّ به المنطقة العربية من تحوّلات كبرى. إنّ الأنظمة الرجعية المرتعدة من موجة الثورات الشعبية لا تدّخر جهدا في البحث عن طوق النجاة لدى القوى الامبريالية ولدى الأنظمة الأكثر رجعية وعنصرية، وهي بالتالي لا تتردّد في إسداء الخدمات الضرورية لهذه القوى لضمان الحماية. وليس أدلّ على ذلك من الدور الذي لعبته القوات السعودية بضوء أخضر أمريكي في قمع ثورة الشعب البحريني. فكلّما ضاق الخناق على هذه الأنظمة الرجعية العربية إلاّ وكشفت عن طبيعتها المعادية لحقوق الشعوب وتطلّعاتها لا سيّما في ظل عدم استكمال المسار الثوري في البلدان التي شهدت ثورات. فليس من باب الصدفة أن تكون الأنظمة التي تقود مسار التطبيع في المنطقة العربية هي الأنظمة الأكثر تواطؤا في إجهاض المسار الثوري في تلك البلدان. فهي تعي جيّدا أنّ صراعها مع القوى الثورية العربية هو صراع وجود وما الدور الذي تلعبه قطر والسعودية والإمارات في تونس والسودان ومصر إلاّ تأكيد على ذلك.
إنّ تنامي مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني والعمل على الإجهاز نهائيا على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني ليس مسؤولية الثورات العربية، بل هو مسؤولية الأنظمة الرجعية العميلة ومسؤولية القوى التقدمية والثورية التي تبنّت سياسات التوافق والتطبيع معها واعتقدت بإمكانية انتصار الديموقراطية والعدالة الاجتماعية بمثل هذه السياسات المترددة والمرتعشة. من هنا تنبجس أهمية تقويض هذه الأنظمة كجبهة من أهم جبهات معركة التحرر الوطني في البلاد العربية. فحتى السلطة الفلسطينية المكبّلة باتفاقيات أوسلو والغارقة في التنسيق الأمني والاقتصادي مع سلطات الاحتلال الصهيوني لم تجد الجرأة الكافية للمشاركة في مؤتمر العار رغم كافة الإغراءات والضغوطات ولكن هذه الأنظمة الرجعية وجدت الجرأة لاستضافته ولتمويله.
لقد أقبلوا فلا مساومة، المجد للمقاومة
تتصارع الأنظمة الرجعية العربية فيما بينها، بل وتتحارب. ولكن مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني يجمعها ويوحّدها (قطر والسعودية – قطر والإمارات). وهي تستعد للذهاب إلى مؤتمر البحرين تحت عنوان “السلام من أجل الازدهار” لإعطاء إشارة الانطلاق لصفقة القرن. إنّ المنطقة العربية مقبلة بهذا المؤتمر على نكسة جديدة لا تقلّ خطورة على نكبة 1948 ونكسة 1967 في ظل تشتت لقوى المقاومة وللقوى التقدمية والثورية العربية وضعف التنسيق بينها، في حين يواصل الشعب الفلسطيني صموده ومقاومته اليومية. ورغم الإمكانيات الهائلة التي سخّرتها الرجعيات العربية بتعليمات من الامبريالية الأمريكية لتمرير هذه الصفقة، فواهِم من يعتقد أنّ الشعوب العربية وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني وكافة الشعوب المنحازة للقضايا العادلة في العالم قد رفعت راية الاستسلام وسلّمت مصيرها للامبريالية ووكلائها الإقليميين والمحليين. فالقضية الفلسطينية لا تزال حاضرة وبقوة في بوصلة الحركات المناهضة للعولمة والحركات المناضلة ضد الهيمنة الامبريالية الأمريكية في العالم.
إنّ أفضل خدمة تقدّمها القوى التقدمية والثورية وقوى المقاومة العربية للقضية الفلسطينية اليوم هي مواصلة نضالها ضد الأنظمة الرجعية التي ارتكبت، وما تزال، أفظع الجرائم في حق شعوبها وفي حق فلسطين، حيث تعتبر الإطاحة بهذه الأنظمة خطوة حتمية لمواصلة مسيرة التحرر والانعتاق. بل إنها خطوة لا تقل أهمية عن النضال في سبيل الإطاحة بالمشروع الصهيوني في المنطقة، فكلاهما ربيب الامبريالية، معادي لحق الشعوب في التحرر والعدالة والكرامة.
حبيب الزموري