في الانتخابات المحلية التي انتظمت يوم 31 مارس الماضي، كان حلم أردوغان أن يضع يده بصفة نهائية على الهيئات المحلية المنتخبة لتعزيز ما حققه على مستوى السلطة المركزية (التشريعية والتنفيذية) وما أتاه من تحوير للدستور يدعم سلطته الفردية ويسمح له بالاستمرار في الحكم إلى ما لا نهاية له. إلاّ أن النتائج جاءت مخيّبة لآماله.
لقد خسر حزب العدالة والتنمية عشرات المدن الكبرى، وعلى رأسها اسطنبول. فما كان منه إلا أن أمر بإعادة الانتخابات بدعوى لجوء المعارضة إلى التزوير، بينما يعلم الجميع أن “المجلس الانتخابي الأعلى” يتركّب من بعض صنائعه وسبق له أن أبلى البلاء الحسن في ترجيح كفة أردوغان وحزبه في محطات انتخابية سابقة.
وفي اقتراع الإعادة في مدينة اسطنبول الذي جرى يوم 23 جوان، تقدّم مرشح المعارضة على مرشح حزب العدالة والتنمية “بينالي يلديريم” الوزير الأول الأسبق ورئيس البرلمان التركي حتى ترشيحه لهذه الخطة، بحوالي 800 ألف صوت، بينما لم يتجاوز هذا الفارق 13500 صوت في الموعد الأول. فكيف نفهم هذا التدحرج المتواصل لأردوغان وحزبه خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، وهل هي مؤشرات لنهاية حكم هذا الطاغية؟
التآكل المتواصل لحكم اردوغان
إن تآكل حكم أردوغان لم يبدأ اليوم، بل إن الانتخابات التشريعية ليوم 7 جوان 2015، والتي كان أردوغان يرمي من ورائها إلى حصوله على أغلبية مطلقة تسمح له بإدخال التحويرات اللازمة على الدستور وتكرّس ديكتاتوريته المتنامية، إلا أن النتائج جاءت عكس ما أراد. إذ أنه، ورغم فوز حزبه بالمركز الأول، لم يحصل على المقاعد الكافية التي تجعله طليق اليدين، خاصة بعد حصول الحزب الديمقراطي للشعوب (الكردي) ولأول مرة في تاريخ تركيا على عدد من المقاعد جعل منه القوة السياسية الثالثة في البلاد والقادر، من داخل البرلمان، على تعطيل مخطّطات أردوغان. ولما عجز حزب العدالة والتنمية على تشكيل الحكومة لرفض بقية الأحزاب الدخول في ائتلاف حكومي معه، خرق أردوغان الدستور، وعوض أن يكلّف زعيم حزب الشعب الجمهوري الحائز على المرتبة الثانية بتشكيل الحكومة، دعا إلى انتخابات جديدة انتظمت يوم غرة نوفمبر 2015، بعدما شنّ حربا شعواء على الشعب الكردي أدّت إلى سقوط آلاف الضحايا وإلى تدمير عشرات المدن والقرى الكردية، موهما الشعب التركي بأن البلاد تتعرّض إلى مؤامرة ومثيرا للنّعرات القومية التركية ضد الشعب الكردي. فمكّنه ذلك من الحصول، في الانتخابات المعادة على عدد المقاعد الكافي لتشكيل الحكومة بمفرده.
وتلا ذلك واقعة الانقلاب المزعوم خلال شهر جويلية 2016 والذي مكّنه من إيداع عشرات الآلاف من المواطنين ـ مدنيين وعسكريين ـ (136 ألف حسب التقديرات) في السجون بتهمة ضلوعهم في الانقلاب، كما ضيّق الخناق على الحرّيات فأغلق عشرات الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزية وأشاع جوّا من الرعب في كامل البلاد. كل ذلك استعدادا لتنظيم الاستفتاء الدستوري في أفريل 2017 والذي يمنحه صلاحيات مطلقة، والذي شابته خروقات متعدّدة ليس أقلّها احتساب ملونين و500 ألف بطاقة اقتراع لا تحمل طابع الهيئة الانتخابية رغم احتجاج مراقبي أحزاب المعارضة. ورغم ذلك فإن الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية لشهر جوان 2018 لم تُعط تقدّما واضحا لحزب أردوغان قبل أن يسمح “المجلس الانتخابي الأعلى” الموقّر لحزب أردوغان بممارسة التّزييف على نطاق واسع. وقد جازا أردوغان أعضاء المجلس على صنيعهم بإعادة تثبيتهم في مركزهماستعداد للجولات اللاحقة.
كل هذه التطورات على الصعيد السياسي، يضاف إليها انكماش اقتصادي حاد، الأخطر من نوعه منذ سنة 2009، وتراجع كبير في قيمة الليرة التركية أمام الدولار واليورو وارتفاع كبير في نسب البطالة جرّاء السياسات النيوليبرالية الوحشية المتّبعة، وجرّاء خاصة انخراط نظام أردوغان في أحلاف عدوانية ضد شعوب المنطقة وحتى خارج المنطقة (تدخّله المباشر في ليبيا لدعم حكومة طرابلس ضد قوات المشير حفتر الذي يصفه بالقرصان)، هي التي تبيّن لنا أن نتائج الانتخابات الأخيرة لم تكن مفاجئة بل لم تكن سوى حلقة جديدة في مسلسل النزول الأردوغاني. فخسارة السيطرة على هيئات الحكم المحلي في مئات المدن والقرى التركية، والخسارة الرمزية لمدينة اسطنبول التي فتحت الطريق في يوم ما أمام أردوغان لبلوغ أعلى هرم السلطة هي تأكيد لفشل هذا الرجل وحزبه في إحكام قبضته على الشعب التركي التّواق إلى الحرية والانعتاق.
انتصار اسطنبول الرمزي يعيد الأمل من جديد الى شعوب تركيا
إن تحكّم حزب أردوغان في مقدّرات الدولة وتوظيفها لفائدته في معاركه الانتخابية لم يُجده نفعا، إذ أن سلوكات قادته أصبحت محل انتقاد لا في الأوساط الشعبية فحسب بل من داخل حزب العدالة والتنمية ذاته الذي أصبحت قدراته “الخارقة للعادة” محل شك وتشكيك، حتى أن الحديث يسري حاليا في العاصمة أنقرة على اعتزام عدد من نواب الأغلبية في البرلمان الاستقالة من هذه الكتلة وتأسيس حزب معارض جديد قُبيل الخريف القادم.
إن انتصار قوى المعارضة على أردوغان في الانتخابات المعادة في بلدية اسطنبول فتح أبواب أمل جديد أمام شعوب تركيا وقواها الديمقراطية، ولقد عبّرت على ذلك في الاحتفالات الجماهيرية الكبيرة التي انتظمت بالمناسبة والتي لم تقتصر على مدينة اسطنبول بل عمّت مدنا عديدة في تركيا. لكن هذا الانتصار، على أهميته، لا يمكن أن يخفي محدوديته المتأتية خاصة من قيادته من قبل أحزاب المعارضة البورجوازية التقليدية المهادنة بطبعها. فما أن حقق حزب الشعب الجمهوري هذا الانتصار حتى راح يبحث عن التفاهمات والتّوافقات مع أردوغان وحزبه، وهو ما قد يعطي متنفّسا لهذا الأخير يستغلّه لإعادة تنظيم البيت الداخلي ولمزيد إحكام القبضة على شعوب تركيا.
إن التحدّيات كبيرة أمام القوى الثورية في تركيا لتخطّ لنفسها طريقا خارج هذا الاستقطاب الثنائي، طريق يفتح أمام شعوبها أبواب التحرر والانعتاق ويعيق مخططات الرجعية المتستّرة بالدين في إقامة نظام تيوقراطي استبدادي.
مرتضى العبيدي