عاش الشّعب التّونسي عقودا طويلة تحت نظام حكم استبدادي أمعن حتى أيّامه الأخيرة في تزوير وقائع النّضال الوطني ضدّ المحتل الفرنسي، فكانت النتائج سقوطا مريعا تدرّج، مع الوقت ووفق أهواء رجالات السّلطة النّافذين وخدمهم من مثقّفي ومؤرّخي البلاط، إلى فبركة رؤية تاريخية واستنتاجات سياسيّة فيها الكثير من المغالطات التي جمعت بين تضخيم دور “الحزب الدستوري” في معركة التحرّر الوطني وتمجيد دور بورقيبة على حساب مسيرة شعب بأكمله.
ومن نافلة القول أنّ هذه القراءة التّاريخيّة المغلوطة أفضت إلى تحديد رزنامة أعياد وطنيّة منسجمة مع المقتضيات السّياسية والعمليّة لتعزيز بناء وتطوير دولة النّظام الدّستوري الذي أفرزته مفاوضات ما قبل “إعلان الاستقلال” في 20 مارس 1956 الذي اقترن في أذهان التّونسيّين بإقامة الاحتفالات والكرنفالات التّمجيديّة. وفي الواقع فإنّه لا يمكن بالمرّة فهم مضامين كلّ ما قيل ويُقال عن هذا التاريخ إلاّ في السّياق العام الذي أشرنا إليه. ومن ثمّة فإنّ العودة إلى تلك اللّحظة التّاريخيّة المهمّة في حياة بلادنا وكفاح شعبنا السّياسي والعسكري ضمن السّياقات الدّوريّة القائمة آنذاك تجعلنا نقف على جملة من الحقائق المرّة والدامغة في ذات الوقت.
كما هو معلوم لم يكن الاتّفاق حاصلا، عشية 20 مارس 1956، حول مفاوضات “الاستقلال” وكذلك حول نتائجها، ذلك أنّ البلاد عرفت انقساما حادّا، لامس الحرب الأهليّة، بين أنصار الحزب الدستوري نفسه. فالتّرحيب بالمفاوضات والاندفاع نحوها كان من الشقّ البورقيبي، بينما عارضها بشدة، من صلب نفس الحزب، المنتصرون للأمين العام “صالح بن يوسف” الذي اعتبر الاستمرار في التفاوض “غدرا” والنتائج “خطوة إلى الوراء” في مسار حركة التّحرّر الوطني. وقد كانت الغلبة للجناح الأوّل، أي البورقيبي، وتمّ التنكيل بالجناح الثاني، أي اليوسفي الذي دفع ثمنا باهظا مازالت بقاياه عالقة بالأذهان حتى الآن.
وفوق ذلك فإنّ تلك الحقبة عرفت تطوّرا لافتا في أشكال الاستعمار الذي أضحى قائما على حفاظ المصالح بواسطة الوكالة وتحديدا من أبناء البلد القابلين حتى النهاية بلعب دور الحراسة والتأمين مقابل القليل وحتى الفتات من الامتيازات الماديّة والجاه. والحقيقة أنّ تغيير شكل الاستعمار الذي نتحدّث عنه قد اقترن بجملة من الشروط فيها ما هو مرتبط بتطوّر الامبرياليّة نفسها وفيها ما هو متّصل بالنهوض الوطني الجارف الذي عرفته الشّعوب والأمم المضطهدة. وعلى أيّ حال فإنّ كلّ الوقائع التي حفّت بـ”الاستقلال الذاتي” الذي تطوّر لاحقا إلى “استقلال تام”، تجعلنا على صواب، رغم تقديرنا الكبير لنضال أجدادنا وخصوصا الجناح المسلّح لحركة التحرّر، عندما اعتبرنا نهايات تلك الحقبة ونتائجها وكلّ ما تلاها من بناء، بعيدا عن تحقيق التحرّر الوطني الذي كان يطمح إليه الشعب التونسي من نضاله ضدّ المستعمر.
إنّ الاستقلال ليس شعارا وخطبا رنّانة تخفي التبعيّة التي أضحت فيها بلادنا منذ 56 حتى يومنا هذا. فالاستقلال الحقيقي لا يمكن فهمه بالمرّة بعيدا عن تحقيق سيادة الشعب على خيرات البلاد وثرواتها ضمن اقتصاد وطني يضع حدّا نهائيّا للهيمنة الاقتصاديّة الأجنبيّة ويبعد نهائيّا قبضة حفنة السماسرة والمتمعّشين من لعب دور الوسيط لفائدة الدّول الاستعماريّة النهّابة ومؤسّسات التّفقير الدّولي. والاستقلال الفعلي لا يمكن أن يكون تحت أيّ حكم يستنكف عن اتخاذ إجراءات حازمة لتأميم المصالح الأجنبية ذات الطابع الهيمني والاستعماري، ويعزّزها بمراجعة فوريّة لكلّ الاتّفاقات المكرّسة للتبعيّة والنهب وتعويضها بأخرى جديدة على قاعدة احترام استقلال البلاد ومبدأ التكافؤ والمصالح المشتركة. والاستقلال الفعلي يتنافى كلّيّا مع نظام الحكم القديم وحتى مع نظام حكم ما بعد بن علي أيضا الذي لا يزال يدفع بخطى مخيفة نحو التعويل على المديونيّة الخارجيّة دون مراعاة لحاجات البلاد ومصالحها وسيادتها مع عدم الموافقة حتى على مبدأ التدقيق في تلك الدّيون وتعليق تسديدها لفترة محدّدة، ومن جهة أخرى يرفض تأميم القطاعات الاستراتيجية الأساسيّة ويواصل عرض ما تبقّى منها، على قلّته، للخصخصة والبيع الزهيد.
ومن المهمّ التأكيد بهذه المناسبة أنّ ثورة الشعب التونسي التي، يحلو للجميع، بمن فيهم أعداؤها السّافرون والمقنّعون، التغنّي بها، لم تكن ثورة سياسيّة فحسب وإنما كانت اقتصادية واجتماعيّة للقطع مع التبعيّة التي ازدادت وتيرتها تحت حكومتي “النهضة”، ومن المرجّح أن تستمرّ مع حكومة مهدي جمعة، ولتشييد اقتصاد وطني ينهض بالبلاد ويلبّي حاجات الشعب الأساسيّة من تشغيل وصحّة وتعليم وثقافة وبيئة.