سليم بوخذير
وأنا أتابع هذه الأيام من شهر رمضان الانتقادات الموجّهة إلى ظاهرة المفطرين في رمضان لاسيما التعليقات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي بما يبدو أنه بخلفية دينية على فيديو مواطن يطالب بحقه في إفطار رمضان، أخذني الحنين إلى مطالعاتي في سنوات خلت لعديد المجلات الفكرية التي كانت ملاذ العديد من أبناء جيلي في زمن النشر الورقي من بينها مجلة “الفكر العربي المعاصر” لمطاع صفدي ومجلة المستقبل العربي ومجلة دراسات عربية ومجلة كتابات معاصرة وغيرها من المجلات المختصة في نشر المقالات الفكرية في أكثر من حقل معرفي من بينها حقل علم الاجتماع. هذا العلم الرائع الذي له امتداداته إلى علم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع الثقافي وعلم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع التربوي، وما تذهب إليه قراءات أهله إلى إيجاد فرق بين ما يسمّى بالمجموعات الدينية والمجموعات الثقافية.
هذه الانتقادات الموجّهة لظاهرة المفطرين في رمضان ربما تكون اتخذت نسقا أقل بكثير هذه السنة من السنوات الماضية باعتبار أنّنا في زمن “الكورونا”، والمقاهي مغلقة بالضرورة من قبْل حلول رمضان. وفرص الظهور في الفضاء العام أقلّ بطبعها من أيّ موسم ولذلك قلّ التحرش بالمفطرين. فيما كنا إزاء نسق أعلى في السنوات الماضية، حيث كان يقع استهداف هؤلاء في المقاهي القليلة التي كانت تغامر بأن تفتح أبوابها لهم، ويركب هذا الاستهداف صهوة الدفاع عن مشاعر الأغلبية الدينية المسلمة في تونس إمّا من قبل أعوان الدولة استنادا إلى مناشير قديمة تمنع فتح المقاهي وما يسمّى بالمجاهرة بالإفطار أو حتى من طرف من ينصّب نفسه مدافعا عن مشاعر هذه الأغلبية التي يراها تُخدَش من طرف المفطرين وأعني المدعو عادل العلمي الذي يبدو أنّ كوفيد 19 أحاله على الإجازة الإجبارية في رمضان 2020 .
لكن لنا أن نتساءل: هل نحن فعلا إزاء خدش لمشاعر الأغلبية الدينية المسلمة في تونس حين نسمح بإفطار المفطرين؟ ولِنكُنْ أكثر شجاعة في طرح سؤال آخر: هل نحن فعلا إزاء أغلبية دينية مسلمة في تونس؟
هناك طريقان يمنحنا اتخاذ واحد منهما الإجابة عن هذا السؤال الشجاع. فإمّا أن نعتمد على مقاربات أهل علم الإحصاء أو نذهب إلى مقاربات أهل علم الاجتماع. وعندها سنجدنا قُبالة إجابتيْن مختلفتيْن. فأهل علم الإحصاء يحدّدون الانتماء إلى المجموعات الدينية بأدوات بحث معينة تجعلنا فعلا نصل إلى نتيجة أنّ لنا في تونس مجموعة دينية أغلبية هي المجموعة المسلمة. وتعتمد أغلب منهجيات أهل علم الإحصاء في العالم لدى تعاطيها مع مسألة الانتماء إلى المجموعات الدينية على أداة رئيسة في العادة هي التصريح بالانتماء إلى هذه المجموعة الدينية دون غيرها. بل إنّ هذه المنهجية في بعض فصولها لا تقصي غير البالغين من اعتبارهم منتمين إلى نفس هذه المجموعة لمجرد أنّ والديهم صرّحوا بانتمائهم إلى هذه المجموعة .
كما لا تفرض هذه المنهجية الالتزام بشعائر الدّين الذي تتخذه هذه المجموعة أو تلك كشرط للانتماء ولذلك في العادة نجد أنّ هذه النتائج التي تصدر عن أهل الإحصاء هي أقل دقة من الناحية العلمية .بينما حين نذهب إلى حقل علم الاجتماع وفروعه سنجد أدواتٍ أخرى في تحديد المجموعات الدينية ونصل إلى نتائج أخرى، وأنت لست مطالبا بأن تكون أكاديميا مختصا في السوسيولوجيا لتهتدي إلى الفرق في المفاهيم بين مفهوم المجموعات الدينية لدى أهل الإحصاء ولدى أهل علم الاجتماع فيكفي أن تعرف التعريف العام للمجموعات الدينية لدى الطرفيْن لتهتدي إلى الفرق .
فمنهجية الاهتداء إلى تحديد المنتمين إلى المجموعات الدينية تختلف كثيرا لدى علماء الاجتماع، هم لا يذهبون فقط إلى مسألة التصريح بالانتماء، بل يعتمدون على مفاهيم أخرى للمجموعات حتى أنهم يسمّون بعض المجموعات بالمجموعات الدينية ومجموعات أخرى بالمجموعات الثقافية .
وحتى لا نغوص في اختصاص أهل هذا العلم الذي هو ليس اختصاصنا سننقل ملخّصا عاما لأدوات هذا العلم في تحديد خِصَال المجموعات الدينية والمجموعات الثقافية والفرق بينهما..
تعريف أهل علم الاجتماع للمجموعة الثقافية ملخّصه هي مجموعة توحّد بينها مجموعة من العناصر بينها العادات والتقاليد وأدوات التعبير (من لغة وفنون) ومعتقدات وأخلاق ومعارف وقواعد ورموز وغيرها من العناصر بينها الجغرافيا.
وهذه المجموعة قد تكتسب تغيّرات بفعل ديناميكية التحرك الزمني أو المكاني حيث تدخل إليها استحداثات لعاداتها وتقاليدها وفنونها أو إضافة كلمات إلى لغتها أو التخلي عن كلمات أخرى أو تُطوّر من عناصرها المشتركة الأخرى في إطار التفاعل.
أمّا عن تعريف المجموعة الدينية فملخّصه هي المجموعة التي يوحّد بينها النص الديني المقدس والرمزية المقدسة للنبي الذي أتى برسالة الدين والشخصيات الرمزية الأخرى للدين والالتزام بأداء شعائر هذا الدين وطقوسه مجتمعة والامتناع عن قائمة المحرمات الدينية مجتمعة التي سنّها النص المقدس والحفاظ على سُنَن الاجتماع في المواعيد الدينية التي يحدّدها هذا الدّين في الأطر المكانية المحددة.
فهذه المجموعة قد لا يوحّد بينها عنصر الجغرافيا، فالانتماء إليها هو التزام عقائدي والتزام ممارساتي والجغرافيا فيه محددة في دُور الاجتماع الديني وفي مسائل تتعلق بقدسية بعض الأماكن التي يضعها النص المقدس لهذا الدّين أو ذاك في خانة المقدسات التي تكون مقصدا للزيارة بين المنتمين إلى هذه المجموعة الدينية في مواعيد محددة.
وقد يعرف المنتمون إلى المجموعات الدينية حالة من الانتماء الخصوصية إلى المجموعات الثقافية. لكن هو انتماء مخصوص يأخذ من المجموعات الثقافية عناصر كاللغة والرموز (الرموز الوطنية مثلا كالعَلَم) والعادات والتقاليد والتعبيرات الفنية أو تقاليد اللباس أو الغذاء أو غيرها. لكن مع الانصراف كُليا عن أيّ ما مِن شأنه أن يكون متعارضا مع سُنَنِ النص المقدس .
وهناك تميّز آخر كبير بين المجموعات الدينية والمجموعات الثقافية يتعلق بمسألة التغيير للثوابت. ففي المجموعة الدينية لا يحدث التغيير إلاّ نادرا ولا يحدث أساسا إلاّ داخل النص الديني المقدس. وحين يحدث نادرا يظلّ مُلْقِيًا بظلاله على فصول طويلة من التاريخ ومتوَارَثا عبر الأجيال المتوارِثة لهذا الدّين، مثال ذلك حصول تغيّر داخل الديانة المسيحية قسّمَ المنتمين إلى أرتودكس وكاثوليك وبروتستانت، أو مثال ذلك تقسيم المنتمين إلى الديانة الإسلامية إلى شيعة وسُنّة. بل ونتيجة الحرص على التغيّر داخل النص الديني المقدس وداخله فقط رأينا تغيّرا داخل السُنَّة أنفسهم من خلال القراءات المختلفة للنص المقدس وتقسيمهم إلى مذاهب متعددة. وفي المجموعة الدينية إنّ أيّ خروج عن النص الديني كوحدة جامعة أو عدم الالتزام به يفقد عمليا صاحبه عنصر الانتماء للمجموعة الدينية، وهذا هو الذي يميّز المجموعة الدينية والمجموعة الثقافية هو الالتزام بالنص المقدس وإلّا لا يمكن علميّا تسميتها بالمجموعة الدينية.
بينما المجموعات الثقافية تعرف التغيرات خارج النص المقدس فهي لها عناصر أخرى توحدها، والتغيير لديها قد يحصل وفقا للتفاعل المكاني وخاصة الزماني الذي يجعل استحداثات تدخل على عاداتها ولغتها وعناصر أخرى جامعة لها.
لو ألقينا نظرة على المجتمع التونسي مثلا في القرن العشرين والقرن التاسع عشر لن نعثر في المدوّنة الفكرية عن الكثير الدقيق المتعلق بالمتغيرات التي حصلت فيما يتصل بمسألة المجموعات الثقافية والمجموعات الدينية. فكلّ ما هو ثابت في الأذهان هو انطباع أنّ ما بقي إلى اليوم هو مجموعة دينية ذات أغلبية ساحقة في المُكوّن الاجتماعي التونسي هي الأغلبية الدينية المسلمة التي تمثل أكثر من 90 بالمائة مع أقلية يهودية وأقلية أخرى مسيحية، وأنّ هذا المجتمع تجمع بين مجموعاته الدينية الثلاث عناصر ثقافية بينها اللغة واللهجات وبعض العادات والتقاليد والفنون والرموز الوطنية والقوانين وغيرها. وهو انطباع ليس محل نقاش عادة.
لكن حين نقف عند هذا الانطباع هل نكون فعلا إزاء تقسيم سليم ودقيق وأمين للمجتمع التونسي بهذا النحو؟
حين تكون أنت شخصا أجنبيا وتزور تونس لأوّل مرّة وتكون هذه الزيارة في رمضان وقبل زمن “الكورونا” وتقضّي أياما من رمضان في تونس وتقترب كثيرا من الحياة العامة والخاصة للتونسيين وتغادر تونس قبل عيد الفطر، ستصدق فعلا أنك في مجتمع به مجموعة دينية ذات أغلبية ساحقة هي المجموعة الدينية الإسلامية لأنك سترى الصائمين في كل مكان وسترى المقاهي والمطاعم مغلقة وسترى الشوارع مقفرة ساعة الإفطار وسترى المساجد ملآى مع ساعة صلاة التراويح .
ولكن لو أضفت إلى رحلتك أياما بعد العيد ستغيّر حتما رأيك تماما، وستستبدّ بك الدهشة حين تشاهد الجحافل المصطفّة بالخمّارات تملأ فضاءاتها شرابا وأحاديث بعضها بذيء وبعضها فيه سب للجلالة ودخان سجائر بينهم من كان صائما بالأمس القريب.
وحين تضيف إلى عُمر رحلتك لتونس أسابيع أخرى سترى ممارسات لا تُحصى لأغلبية كبيرة غير متقيّدة بهذا الدّين بل مخالفة له تماما، وستقفز إلى ذهنك أسئلة كثيرة لن تعثر لها عن إجابات يسيرة من بينها: هل فعلا أغلبية المجتمع التونسي هو من المجموعة الدينية المسلمة؟
لنكن موضوعيّين ونقول إنّ هناك فعلا في تونس مجموعة دينية بالتعريف السوسيولوجي للمجموعة الدينية هي المجموعة الدينية المسلمة وهي فعلا أغلبية ساحقة مقارنة بالمجموعات الدينية الأخرى التي هي أقلية فعلا كالمجموعة اليهودية أو المسيحية، وأنّ هذه المجموعة الدينية الأغلبية هي من غالبية مالكيّة. لكن القول إنّ هذه المجموعة هي التي تمثل أغلبية ساحقة بين المجتمع ككل هو قول ليس ثابت الصحّة .
فالحقيقة التي لا نحتاج إلى مجهر أو دراسات معمّقة لِنراها هي أنّ هناك مجموعة أخرى تنافس هذه المجموعة الدينية على مسألة الأغلبية، وهي مجموعة ثقافية تقاطعت مع المجموعة الدينية في نزر قليل جدا من المشترك ذي الطابع الديني وأخذت منه القليل بشكل اجتزائي جدا لتجعله مُكوِّنا من عناصرها الثقافية وعاداتها حتى تحافظ على شعرة ارتباطها بالمقدس الديني الذي تؤمن به وليتيسّر لها التعايش مع المجموعة الدينية .
هذه المجموعة الثقافية الواسعة العدد، وكأيّ مجموعة ثقافية، كوّنت لنفسها عناصرها الخصوصية ومن بين عناصرها الخصوصية العادات والتقاليد الحية وأيضا المعتقدات. ولا نستطيع بتاتا أن نصنّفها بالمجموعة الدينية. بل هي مجموعة ثقافية أخذت من الدّين بعض التعبيرات وطوّرتها في إطار ثقافي وحوّلتها من شعائر دينية إلى عادات. وطالما أننا نتحدث عن عادات فنحن نتحدث عن مجموعة ثقافية، الطريف أكثر أنّها أخذت من شعائر ديانات أخرى غير الإسلام وحشرتها في عاداتها جنبا إلى جنب مع بعض الشعائر الإسلامية، ومثال ذلك أنّ هذه المجموعة تُمارس الصيام في رمضان كعادة ولا تمارس الصلاة مثلا مع أنّها عبادة أكثر أولوية في الدين، ولكنها في الآن نفسه تحتفل برأس السنة الميلادية المسيحية في المنازل والعلب الليلية كعادة أيضا. بل وأضافت إلى المسيحية ما تسطيع تسميته بالتقليعات من اقتناء الدجاج وطبخه ليلة رأس السنة الميلادية ..
هذه المجموعة الثقافية الواسعة العدد في تونس من عاداتها تحريم أكل لحم الخنزير لكن هي تضمّ فيها من لا يمتنع عن شرب الخمر في غير رمضان وتكون من عاداته أنّ الخمر غير جائز يوم الجمعة، كما أنّ بعض المنتمين إليها لا يرى مانعا من القمار في رمضان وبعض المنتمين إلى هذه المجموعة يقتنون خروف عيد الأضحى لكن لا يوزعون لحمه على الفقراء مثلما ينصّ الدّين. بل يتعاطون معه كعادة ويأكلون هُمْ لحمه ولا مانع عند عديدهم من أكله مع النبيذ الأحمر يوم العيد، وبعض المنتمين إلى هذه المجموعة الثقافية لا يحرّم العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج ولكن هو يتجنب التصريح بذلك علنًا. كما أنّ بعض المنتمين إلى هذه المجموعة يعتبر العلاقة العاطفية حقا من حقوقه خارج الزواج لكن يحرّم ذلك على شقيقته مثلا خارج مؤسسة الزواج، وبعض المنتمين إلى هذه المجموعة الثقافية يمارس الكلام البذيء وأحيانا سب الجلالة ولا يحتجّ على أنه مسٌّ من مشاعر المسلمين على سبيل المثال.
ولاشك في أنّ هذه المجموعة الثقافية واسعة العدد في تونس وهي التي فرضت بالتدريج مساحات واسعة لممارسة عاداتها، ومن بين هذه المساحات تطبيق تشريعات مناسبة لعاداتها كمنشور منع فتح المقاهي للمفطرين في رمضان لأنّ في عاداتها الصيام في رمضان. بينما هي لم تفرض تطبيق تشريعات تفرض منع بيع الخمر للمسلمين لأنّ من عاداتها السماح باقتناء الخمر .
وكأيّ مجموعة ثقافية عرفت هذه المجموعة تغيرّات في مضامين عناصرها الخصوصية المكونة عبر الزمان والمكان. ففي علاقتها باللهجة، إنّ لهجة المنتمين إلى هذه المجموعة الثقافية الواسعة العدد تتغير من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى أخرى وعاداتها أيضا تتغير أيضا وفقا للانتماء الجغرافي أو النَّسَبي العائلي أو العشائري والقبَلي تماما كما باقي المجتمع التونسي، وعرفت تغيرات عاشها المجتمع التونسي وفقا للمعيار الزمني أيضا من ذلك تغير الملابس المشتركة بين زمن وآخر كسِمَة ثقافية، ومثال ذلك الجبة التونسية مثلا تحولت عندها إلى لباس متروك.. لباس من التراث ترتديه فقط في مناسبات محدودة.. وفي علاقتها بالأكل مثلا رُسِمت عادات بعضها مرتبط بمواعيد كأكلة البريك والشربة تصبح عادة في رمضان أو كالبقلاوة وحلويات العيد تكون بمناسبة العيد فقط. وهي بالمناسبة عادات ثقافية تركية في غالبها وليس الدّين موردا لها بل من تداعيات الاستعمار العثماني لتونس.
تماما كما من تداعيات الاستعمار الفرنسي لتونس دخول كلمات وتعبيرات عديدة من اللغة الفرنسية على استعمالات لسان هذه المجموعة الثقافية، وفي إطار العلاقة بمسألة تطور لسان هذه المجموعة كمكوّن ثقافي أساسي لها استحداث جيل جديد من الكلمات في السنوات القليلة الماضية في لسان هذه المجموعة الثقافية.. (مثال ذلك عبارة “قحاف” تطلق على الرجل الطماع هي عبارة مستحدثة كانت عند الجيل السابق من لسان هذه المجموعة الثقافية ترادفها عبارة “هنّاد” التي لم تعد رائجة الآن لدى الجيل الجديد من المنتمين إلى هذه المجموعة الثقافية).
وإنّك قد تعطيك مسألة تشبث المنتمين إلى هذه المجموعة الثقافية الواسعة العدد ببعض العناصر المكونة لهوية مجموعتهم المتجزئة من الدين، انطباعا بأنهم بصدد التمثيل، أي أنهم غير مقنعين ولكن هذا غير صحيح. فالمنتمون إلى هذه المجموعة هم مؤمنون بالدين الإسلامي ولكن غير متديّنين. فهم نجحوا في وضع هذه المجتزئات الدينية في خانة المعتقدات، وهذا ما يؤكد أننا إزاء مجموعة ثقافية لأنّ المجموعة الثقافية لها عنصر مشترك هو المعتقدات والذي يكون له بعد رمزي يرقى إلى درجة القداسة في بعض الأحيان. أمّا المجموعة الدينية فلها شروط أخرى في علاقتها بالدّين فهي تفرض شمولية النص المقدس ولا ترضى بِتجْزِئَتِهِ.
سنعطي مثالا آخر على مجموعة ثقافية أخرى في تونس هي ليست واسعة العدد، لها أيضا معتقدات مشتركة كأيّ مجموعة ثقافية وليست دينية ولها هذا البعد الرمزي في معتقداتها. وأعني مجموعة الماركسيين في تونس.. هؤلاء لهم معتقدات مشتركة مثلما لهم تقاطعات ثقافية مع المجموعة الثقافية التي كنا نتحدّث عنها. لكن ما يجعل مجموعة الماركسيين في تونس على اختلاف مشاربهم مختلفين أنّ لهم معتقدات خاصة بهم عن المجموعة السابقة.. هم لهم مرجعيات نصّية لكارل ماركس مثلا وفريدريك إنجلز وفلاديمير لينين وغيرها من المرجعيّات عبر أجيال المدوّنة النصّية لهذه المدرسة الإيديولوجية تميّزهم من ناحية منطقة المعتقدات على المجموعة الثقافية الأكثر عددا، كما أنّ لهم بعد رمزي يغطّي حاجتهم كمجموعة ثقافية لبعد رمزي (لهم رموز يقدّرونها من مناضلي الشيوعية.. لهم عَلَم رمزي.. لهم أناشيد تتغنّى برموزهم).
وعلى غرار المجموعة الثقافية الأكثر عددا في تونس، عرفت المجموعة الدينية الأكثر عددا في تونس تغيرات هي الأخرى لكن داخل حدود النص، فينتمي إلى المجموعة طيف واسع ممّن يلتزمون بالنص المقدس من خلال أداء الشعائر والالتزام بها دون سعي تنظيمي إلى نقل هذه الشعائر إلى الآخرين أو ما يسمى بالدعوة. ولكن تنتمي أيضا إلى هذه المجموعة فئة أخرى تسعى إلى الدعوة ومنها مجموعة الدعوة والتبليغ وهي مجموعة دينية لا محالة ولكنها ذات خصوصية هي أنّ المنتمين إليها يمارسون الدعوة فضلا عن الشعائر. ومن الطريف أنّ هذه المجموعة الدينية تسرّبت لها بوعي أو بغير وعي تقاطعات ثقافية مع مجموعة ثقافية أجنبية. فمثلا بعض المنتمين إلى هذه المجموعة يرتدون لباسا مميزا لم يأخذوه من النص المقدس وإنّما أخذوه على ما يبدو من خاصية ثقافية لقبيلة البشتون الممتدة بين أفغانستان والباكستان.
وأكبر تغيير في رأينا حصل في المجموعة الدينية المسلمة في تونس هو ظهور ما يسمى بالإسلام السياسي وهو تغيير تمّ داخل حدود النص المقدس الذي يسمح بممارسة السياسة حسب بعض قراءاته ، وقد ظهر الجيل الأول من الإسلام السياسي مع ظهور حركة الاتجاه الإسلامي وحزب التحرير لكنه تطور بعد ذلك بسنوات عديدة إلى ظهور جيل آخر من الإسلام السياسي أكثر ظلامية هو جيل السلفيين والدواعش .
نعود إلى موضوعنا وهو محاولة التحرش بالمفطرين ومنع المقاهي في رمضان نهارا، لنَخْلُصَ إلى أنّ المجموعة الثقافية الواسعة العدد هي على ما يبدو التي تسببت في فرض هذه العادة وعلى نبذ المفطرين ودور المجموعة الدينية كان إمّا بالصمت على هذا الفرض أو بالمشاركة فيه من خلال تفعيل سلاح التشريعات أو من خلال ممارسات لبعض المنتمين إلى الإسلام السياسي كالمدعو عادل العلمي أو من خلال حملات التنديد بالمفطرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي للذباب الإلكتروني للإسلام السياسي، وهي حملات تجد صداها الإيجابي لدى بعض المنتمين إلى المجموعة الثقافية التي تلتقي فقط مع الإسلام السياسي في مسألة أنّ المجاهرة بالإفطار فيها مسّ من مشاعر المسلمين، لكن لا تلتقي معها في مسألة فتح الحانات في غير رمضان مثلا وغيرها من الممارسات الأخرى المخالفة للنص المقدس .
ونستخلص أيضا أنّ هذه المجموعة الثقافية هي تقريبا تمارس منذ سنوات سطوة أو ربّما يصحّ القول إنّها تمارس دكتاتورية على المجتمع تفرض من خلالها عاداتها وخصوصياتها الثقافية التي تجعلها ذات الدور الطليعي في قيادة المجتمع في عديد المناسبات.
والتناقضات الجمّة في الشخصية العقائدية الجامعة لهذه المجموعة الثقافية التي تجعلها مصابة في ظاهر الأمر بما يشبه السكيزوفرينيا الجماعية (انفصام الشخصية الجماعي)، تجد صداها نفسها في التناقضات الزاخرة بها المدونة التشريعية التونسية بين ولاءٍ للمرجعية الدينية في بعض الأحيان وولاء آخر للمرجعية الإنسانية لاسيما في مجال الحقوق والحريات والتي تتناقض كثيرا في نصها مع المرجعية الدينية.
فلا شك في أنّ إرساء دولة مدنية حقيقية كان سيحمي مجمل المجموعات والأطياف في تونس كانت دينية أو ثقافية من أي نيل من خصوصياتها وحقوقها، إلّا أنّ مشروع الدولة المدنية ظلّ مقتصرا على فصل في الدستور وبعض الفصول الأخرى الحامية للحقوق والحريات دون أن يقع تغيير عديد التشريعات الأخرى المناقضة لمبدأ مدنية الدولة وللحقوق والحريات والتي لبعضها مرجعيات دينية، وهو ما غَدَا شكلا آخر من الانفصام اسمه الانفصام التشريعي ألقى بتداعياته السلبية على حقوق عديد الأفراد والمجموعات في تونس.