تولّى يوم الخميس 02 جويلية الأمين العام لحزب العمال، الرفيق حمّه الهمامي، تأبين الرفيق برهان القاسمي الذي اختطفته المنية فجأة بداية الأسبوع وهو في سنّ الثالثة والخمسين. وقد تمّ التأبين بمقبرة تبلبو بقابس بحضور المئات من المُشيّعات والمُشيّعين الذين جاؤوا من مختلف أنحاء البلاد لتوديع الفقيد العزيز. وفيما يلي نصّ التأبين:
“يا أخواتي، ويا إخوتي،
يا رفيقاتي، ويا رفاقي،
يا أهالي تبلبو، ويا أهالي قابس الأعزاء،
نودّع اليوم عزيزا علينا. نودّع اليوم رفيقا وأخا وصديقا وحبيبا.
نودّع اليوم مناضلا ثوريا، اشتراكيا، تقدميا، وطنيا، أمميا، شهما، شجاعا، جريئا، صلبا، ثابتا، عنيدا، مثابرا، جسورا، صبورا، مثقفا، متواضعا، طيبا، كريما، نصيرا للعمال والكادحين والفقراء وكل المظلومين والمضطهدين في تونس وفي فلسطين والوطن العربي وكافة أنحاء العالم.
نودّع مناضلا لم يتردّد طوال مسيرته النضالية ولم يتراجع ولم يتنازل ولم يساومْ ولم يُخطئ السبيل حين كانت السبل تختلط. كانت الأزمات والمصاعب، وما أكثرها في واقع بلادنا وشعبنا وفي حياة فقيدنا، تشحنه وتقوّيه، فما أصابه يأس وما نال منه إحباط وما اهتزت له معنويات. “الريح التي تهبّ في الوجه تجعل المرء حكيما” كما يقال. وقد كان فقيدنا الذي عاش خلال مسيرته الأزمات والمصاعب الكثيرة، حكيما في أيّام العواصف والرّياح.
يا أخواتي، يا إخوتي،
يا رفيقاتي ورفاقي،
يا أهل تبلبو، يا أهل قابس.
نودّع اليوم برهان القاسمي، هذا العظيم الذي تتلخص حياته منذ نعومة أظفاره في كلمة واحدة “النضال، النضال، النضال”. بدأ فقيدنا، المولود في عام 1967، مسيرته تلميذا بالمعهد الثانوي بقابس. اختار مبكرا حزب العمال حضنا لنضاله. واحتضنه حزب العمال. وظلّ الاثنان يحتضنان بعضهما بعضا إلى آخر لحظة في حياة الفقيد. وسيظل حزب العمال يحتضن ابنه إلى الأبد زعيما من زعامات شبابه ورمزا من رموزه التاريخيين.
لم تمهل عصى القمع برهان طويلا منذ بدْء مسيرته النضالية بصورة مبكّرة. فقد انفتحت أمامه وبسرعة أبواب السجون، إذ اُعتقل في أفريل 1987 مع ثلّة من رفاقه، الحبيب القروي، فتحي العوني، توحيد العزّوزي، منجي العزّي وغيرهم. عُذّب وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة مع خمس أخرى مراقبة إدارية وخطية بألف دينار. وقد طاف برهان خلال مدة حبسه بين عدّة سجون… سجن قابس، سجن صفاقس، سجن برج الرومي ببنزرت… وكان برهان في عهده أصغر سجين سياسي عرفته تونس. وقد بدت عليه منذ البداية ملكات القائد الصلب، إذ كان من أبرز الصّامدين رغم صغر السنّ في وجه جلاّديه بمحلاّت البوليس السياسي وبالسّجن.
ومنذ تلك اللحظة أصبحت حياة فقيدنا وعزيزنا حربا مسترسلة مع الدكتاتورية من أجل قوت الشعب وحريته وكرامتها وأصبح ملاحقا باستمرار. وقد اُعتقل برهان عدّة مرّات ودخل السجن مجددا في عهد بن علي مع عدد من رفاقه أرى العديد منهم حاضرا اليوم لتوديعه مثل علي الجلّولي وطه ساسي ومحمد القابسي… كما أنه عاش في السرية لعدة سنوات. ولما جاءت الثورة كان فقيدنا أحد جنودها، ساهم فيها بقوة وشجاعة والتزام في صفوف حزبه، حزب العمال.
ولم تتوقف أتعاب برهان بعد الثورة. فقد واصل النضال بلا هوادة مع رفيقاته ورفاقه ومع كل التقدميين في قابس وفي كامل تونس ضد الحكام الجدد الذين عملوا على الالتفاف على الثورة، الحكام الجدد من أول حكومة بعد الثورة إلى اليوم، فكاد له الأعداء المكائد ولفّقوا له تهما باطلة وأعادوه إلى السجن وهو ما جعل منه بحق وجدارة سجين كل العهود البورقيبي والنوفمبري والحالي.
نذر برهان حياته لبلاده، لعمّالها وكادحيها، لنسائها وشبابها. نذر حياته لحزبه، حزب العمال ولم يحد يوما عن خطّه الاشتراكي فكرا وسياسة وممارسة. ولا بدّ لي هنا أن أتوقف عند صفة بارزة من صفات فقيدنا التي يعرفها الكثيرون، وهي صفة برهان المثقف، فرغم أنه غادر المعهد مجبرا بحكم القمع وهو يزاول تعليمه بالسادسة ثانوي، فقد كوّن نفسه بنفسه. نهل من الفلسفة والاقتصاد والسياسة والأدب والفن وكسب ثقافة صلبة وهو ما جعل منه صاحب قلم مبدع.
لقد كتب برهان المقالات لصحيفة “إلى الأمام” لسان حال اتحاد الشباب الشيوعي التونسي. كما كتب المقالات لـ”صوت الشعب” لسان حال حزب العمال. كما كتب مقالات فكرية عديدة ومتنوعة وعميقة دفاعا عن الثورة وعن مبادئ الاشتراكية العلمية وعن خطّ حزب العمال وبرنامجه الذي كرّس الفقيد حياته للدفاع عنه باستماتة وعن قضيّتنا الأم فلسطين. وقد نُشرت مقالاته الأخيرة في مواقع مُهمّة منها خاصة موقع “الحوار المتمدّن”.
وكان الفقيد يستعدّ قبل وفاته بأيام لإنجاز مشاريع جديدة. حدّثنا الرفيق الجيلاني الهمّامي البارحة في اجتماع اللجنة المركزية لحزبنا بأنّ برهان عبّر له في آخر اتصال بينهما عن استعداده للكتابة في العدد الجديد من نشريّة الحزب وقال له مازحا “سأكتب وسأهاجم” ردّ عليه الجيلاني “المهم اكتب وهاجمني أنا إن شئت”، فأجابه برهان ضاحكا “وهل تتصورني أهاجم حزب العمال في يوم من الأيام”. كما اتفق برهان مع الجيلاني على إصدار مؤلف جديد، مشترك، حول الحزب الثوري في الظروف الراهنة، وتقاسما الفصول… قبل أن تختطفه المنيّة.
غادرنا برهان كما عرفناه منذ اليوم الأوّل صادقا، مخلصا في التزامه، جادّا في كفاحه وفي دفاعه عن ثورة شعبه وعن حزبه، حزب العمال، وعن المُثُل الاشتراكية التي اعتنقها.
برهان سيبقى حيّا بيننا وسنظلّ مخلصين له ولإرثه الثوري المجيد.
الوداع الوداع يا رفيقنا ويا عزيزنا ويا حبيبنا.
الوداع… لقد كبُر المصاب… ففي الوقت الذي نودّعك يا برهان غادرنا رفيقان آخران في عزّ الشباب، حليّم العبيدي والعيّاشي الردّاوي اللّذين أنهكهما المرض وأخذ منهما مأخذه.
سنظل أوفياء لك ولهما وللمبادئ والقيم والأهداف التي كرّستم لها جميعا حياتكم وجهدكم.
نتوجّه بالعزاء إلى أهلك وذويك يا برهان… نتوجّه بالعزاء إلى أهالي تبلبو وقابس ونقول لهم أن افخروا بكونكم أنجبتم هذا الابن العظيم…
نُعزّي أنفسنا في المصاب الذي حلّ بنا برحيلك المبكّر…يا برهان.
ثوارا كنا وثوارا مازلنا وثوارا سنبقى إلى أبد الآبدين…
الوداع الوداع يا برهان يا سيّد الثّائرين.
حَمَّه الهَمَّامِي
تبلبو – قابس
2 جويلية/يوليو 2020